الاشتراكية والرأسمالية الحقائقُ الاجتماعيةُ هي الاشتراكيةُ بذاتِ نفسِها، وستَظلُّ قائمةً كطرازٍ للحياة، ما دامَ المجتمعُ قائماً

عبد الله أوجلان
الدفاعُ عن المجتمعيةِ في وجهِ الفرديةِ التي فرضَتها الحداثةُ الرأسماليةُ على المجتمع، وتوثيقُ أواصرِها مع مطالبِ الحريةِ والمساواة؛ هما من الأهدافِ الأوليةِ لليوتوبيا الاشتراكيةِ الكلاسيكية. والحنينُ التقليديُّ للمجتمعِ والحريةِ والمساواة، قد تأججَ أكثر مع اكتسابِ الرأسماليةِ صفةَ الهيمنة. فمع تصاعُدِ الهيمنةِ الأيديولوجيةِ الليبرالية، تأثَّرَت اليوتوبياتُ الاجتماعيةُ بالعِلمِ المتنامي، فأعلنَت نفسَها اشتراكيةً. أما انزلاقُ هيمنةِ نظامِ المدنيةِ المركزيةِ في العصرِ الحديث، فهو حصيلةُ الكفاحاتِ الطويلةِ المدى للتمدنِ في أوروبا الغربية. في حين، ومع حلولِ القرنِ السادسِ عشر، تسارَعَ انزلاقُ هيمنةِ المدنيةِ التي وضَعَتها البلدانُ الإسلاميةُ في قبضةِ الهندِ والصين. وقد لعبَ نجاحُ الثقافةِ المدينيةِ في أوروبا الغربيةِ في هضمِ ثقافةِ مراكزِ المدنيةِ القديمةِ دورَه الرئيسيَّ في ذلك.
مدنيةُ أوروبا الغربية، وعلى عكسِ ما يُعتَقَد، لا علاقةَ لها بقوةِ ثقافةِ المسيحيةِ أو قدرتِها على الحلّ، بل هي مرتبطةٌ بالبحثِ عن ثقافةٍ جديدةٍ نتيجةَ العُقمِ السائدِ في تلبيةِ متطلباتِ حياةِ المدينةِ الجديدة. إذ لَم تتمكنْ المسيحيةُ من إدامةِ نفسِها إزاءَ المستجداتِ والتطوراتِ الحاصلةِ في القرنِ السادسِ عشر، إلا بالإصلاح. فالإصلاحُ في الدينِ كان غيرَ قادرٍ على تغطيةِ الحاجاتِ الثقافيةٍ للحضارةِ المدينيةِ الجديدة، إلا بنسبةٍ محدودةٍ جداً.أما تأميمُ الكنيسة، فكان تغييراً شكلياً أكثر منه مضموناً. أما المصادرُ الأصلُ للمتطلباتِ الثقافية، فكانت إسلامَ الشرقِ الأوسطِ والمدنيتَين الصينيةِ والهندية. وعملياتُ النقلِ والاقتباسِ الجاريةُ من تلك المراكز، قد انتهَت مع نهاياتِ القرنِ الثامنِ عشر إلى الثورةِ الاقتصاديةِ الإنكليزيةِ والثورةِ الفرنسية السياسيةِ والاجتماعيةِ. وقد لعبَ عديدٌ من المؤثراتِ الأخرى أيضاً دورَه في ذلك. لكن، وعلى الرغمِ من الإحداثياتِ التي تضمَّنَتها الاكتشافاتُ والاختراعاتُ الحاصلة، فإنّ انزلاقَ الهيمنةِ كان مستحيلاً في نهايةِ المطاف، لولا عملياتُ النقلِ الثقافيِّ لمراكزِ المدنيةِ القديمةِ تلك. ما من ظنٍّ في قابليةِ التحديثِ والتركيبةِ الجديدةِ العظيمةِ التي أَبدَتها أوروبا مع حركاتِ النهضةِ والإصلاحِ والتنوير. هذا وإننا نَرصدُ هكذا حركاتٍ عظيمةً في مراحلِ التاريخِ القديمةِ ضمن الهلالِ الخصيبِ وميزوبوتاميا السفلى وشرقِ البحرِ المتوسطِ وعلى شواطئِ بحرِ إيجه. في حقيقةِ الأمر، إنّ الحلقةَ الأخيرةَ الكبرى من نظامِ المدنيةِ المركزيةِ المتكونِ من هذه المراكزِ التاريخيةِ بالتوالي، قد تَشَكَّلَت على شواطئِ أوروبا الغربية. وقد أدت حضاراتُ المدنِ الإيطاليةِ دوراً مُعَيِّناً في ذلك.
تتمثلُ أهميةُ هذه المدنيةِ الحديثة، أي الحداثةِ الرأسماليةِ في استيعابِها البراديغما العلميةَ الحديثةَ تحت ظلِّ هيمنتِها. فالعِلمُ المنفعيُّ البراغمائيُّ الجديدُ صار قيمةً متصاعدةً، حَلَّت محلَّ الذهنيةِ ذاتِ الأصولِ الدينية، بل وحتى الفلسفيةِ أيضاً. فالثورةُ العلميةُ المتناميةُ في الجامعاتِ خلال نهاياتِ القرنِ الثامنِ عشر،باتت مُتَمِّمةً للثوراتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِالأخرى. وخُطَّت حدودٌ فاصلةٌ جذريةٌ تُمَيِّزُ العلومَ الفيزيائيةَ التجريبيةَ عن تلك المعنيةِ بالطبيعةِ الاجتماعية. وتَشَكَّلَ داخلَ كلٍّ منها عددٌ جمٌّ من ميادينِ التخصصِ والفروعِ العلمية. هذا ولَم تتأخرْ الهيمنةُ الأيديولوجيةُ الليبراليةُ عن طَبعِ العلومِ الاجتماعيةِ بِمُهرِها. إذ رَوَّضَت النتائجَ الإيجابيةَ للثوراتِ تحت نيرِ احتكارِها، مُكَيِّفةً إياها ومصالحَها هي. فإعلانُ اليوتوبيا الاشتراكيةِ ذاتَها اشتراكيةً علميةً بريادةِ كارل ماركس وفريدريك أنجلز بالتوجُّهِ صوبَ أواسطِ القرنِ التاسعِ عشر، إنما حصلَ بتأثيرٍ من علمويةِ الليبرالية. وبالأصل، لَم يتوانَ كارل ماركس وفريدريك أنجلز عن التصريحِ بكونِ اشتراكيتِهما العلميةِ تركيبةً جديدةً وجَميعةً مؤلَّفةً من الفلسفةِ الألمانيةِ والاقتصادِ السياسيِّ الإنكليزيِّ والاشتراكيةِ الفرنسية.
رغم كلِّ مزاعمِها العلميةِ ومسارِها الانتقاديّ، إلا أنّ الاشتراكيةَ العلميةَ عجزَت عن إبداءِ القدرةِ اللازمةِ تماماً لتَخَطّي ذهنيةِ الحداثةِ الرأسماليةِ وعالَمِها العلميِّ وبُنى ثقافتِها المادية (المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)؛ حيث ظَهرَ ذلك للعَيانِ في عددٍ كبيرٍ من تجاربِ الاشتراكيةِ المشيدةِ تتصدرُها التجربتان الروسيةُ والصينية. لا يُمكنُ الادعاء بالهزيمةِ الكليةِ للثوراتِ الاشتراكية، وبذهابِها سُدى. ومن غيرِ الممكنِ أيضاً إنكارُ أنها خَلَّفَت وراءَها زخماً عظيماً من الإرث، وأنها لا تَبرحُ تُشَكِّلُ عاملاً لا استغناءَ عنه في الحياةِ اليومية، وتُعَدُّ منبعَ متانةِ العالَمِ الذهنيِّ المُعَبَّأِ بالأملِ العارِم. لكنها بقيَت قاصرةً عن حسمِ وتَحصينِ الفوارقِ التي تُمَيِّزُ الحضارةَ والعصرانيةَ كبديل. بالتالي، لم تستطعْ إنقاذَ نفسِها من الانصهارِ في بوتقةِ الحداثةِ الرأسماليةِ بدرجةٍ جادة. ومع ذلك، فقد تبدى في راهننا كفايةً أنّ هذه الحقيقةَ ليست قدَراً محتوماً، بل هي متعلقةٌ بالقضايا التي عجزَت اشتراكيةُ العصرِ الرأسماليِّ عن حلِّها.
تتصفُ المداوَلاتُ المعنيةُ بالمجتمعِ تزامُناً مع الرأسماليةِ الصناعيةِ بالأهمية. حيث تزدادُ المساعي تدريجياً في تلك المرحلة، بشأنِ إجلاسِ اليوتوبياتِ الاشتراكيةِ على أرضيةٍ علميةٍ ونهجٍ عملياتيّ. لكنّ ما يتوارى خلفَها جميعاً هو الفكرُ التنويريُّ المنقطعُ جذرياً عن الماضي. واهتمامُ الفكرِ التنويريِّ بهذا الانقطاعِ الجذريِّ بدلَ تجاوُزِ الماضي جَدَليّاً، قد تركَ بصماتِه القويةَ على سياقِ القرنَين اللاحقَين له. حيث ساد التعاطي مع كلِّ ظاهرةٍ وكأنها تُبنى للتوِّ دون أنْ يَكُونَ لها أيةُ روابط مع الماضي والتقاليد. بل وجُعِلَ كلُّ ما له علاقةٌ بالماضي موضوعاً للتقييماتِ السلبية. كان جلياً تماماً أنّ هذا الموقفَ سيَعكِسُ الحقيقةَ الاجتماعيةَ بعدَ تحريفِها، بالرغمِ من دوافعِه المفهومةِ وراء ذلك انطلاقاً من البراديغما الجديدة. ما من شكٍّ أنّ آفاقَ الحقيقةِ في الفكرِ التنويريِّ تتفوقُ على سابقاتِها من العصورِ القديمةِ في العديدِ من النواحي (وليس كلياً). حيث ما كان لها أنْ تَخلقَ العصرَ الحديثَ لو لَم تَكُ كذلك. لكنّ كونَها هكذا لا يُفيدُ باستيعابِها واحتوائِها الحقيقةَ كاملةً. لكنّ مزاعِمَ جميعِ رُوّادِها كانت في هذه الوِجهة. وقد نَبَعَت القضايا أيضاً من هذه المزاعم. من هنا، بالإمكانِ تعريفُ هيغل بالفيلسوفِ العظيمِ للفكرِ التنويريّ، ولكنْ بعدَ تمريرِه من التحويرِ والتعديل. فكما أنه خَصَّ التاريخَ الاجتماعيَّ بالمكانةِ التي يستحقُّها، فقد بَسَطَ للمَلأِ فلسفةَ العلمِ أيضاً بقوةٍ لم يتخطاها أحدٌ بَعدُ (بمعنى من المعاني).
كارل ماركس، الذي استقى من هيغل، اعتَقَدَ بتَمَكُّنِه عن طريقِ الماديةِ من تجاوُزِ الجانبِ المثاليِّ الوطيدِ والمفرطِ في فلسفةِ هيغل، واقتربَ بمبدئيةٍ وثَباتٍ من هذا الخصوص. المُعضِلةُ هنا هي العجزُ عن فهمِ عدمِ الأهميةِ الكبرى للتمييزِ بين الماديةِ والمثالية، كونَ كِلتَيهما تَحمِلان بين ثناياهما خصائص ميتافيزيقيةً مثالية. أي أنه اعتُقِدَ بصياغةِ فلسفتَين متضادّتَين. لكنّ ماركس متأثرٌ هنا بالنهجِ التنويريِّ أكثر مما عليه هيغل. ذلك أنّ ماركس تَعَدّى حدَّ القولِ بتَخَطّي الماضي، ليَعتَبِرَه بلا جدوى وبلا معنى، أو نَظَرَ إليه بوصفِه حادثاً ظلاً أو مَظهَراً وحسب. هكذا عجزَ عن إدراكِ كونِ الماضي ما هو إلا “الحاضر” بكلِّ وطأته. لقد كان أقلَّ خِبرةً ومعرفةً من هيغل في هذا المضمار. بالمقدورِ القولُ أنه انتبَه إلى هذا النقصانِ والخطأِ في أعوامِه الأخيرة (1880 – 1883)، واستوعبَ أهميةَ المجتمعِ المشاعيِّ الكوموناليِّ القديمِ وظاهرةِ الدولةِ المسماةِ بالبنيةِ الفوقيةِ أيضاً، فازدادَ اهتمامُه بالمجتمعِ الشرقيّ. مما دفعَه إلى القيامِ ببعضِ التعديلاتِ في أفكارِه لتصحيحِها.لكنّ النهجَ التنويريَّ سيطرَ على الماركسيةِ طيلةَ تاريخِ الاشتراكيةِ المشيدةِ بأكملِه. يتجسدُ الخطأُ الأساسيُّ لهذا التاريخِ في الاعتقادِ بتحقُّقِ المجتمعِ الجديد، أي ببناءِ الشيوعيةِ كلياً على أرضيةِ الرأسماليةِ انطلاقاً من تجاوُزِ المجتمعِ الرأسماليّ. بل وأُنيطَ هذا الاعتقادُ بقيمةٍ علميةٍ رفيعةٍ باعتبارِه “اشتراكيةً علمية”.
هذا الموقفُ بذاتِ نفسِه أيضاً يحتوي خطأَين رئيسيَّين: أولُهما؛ العجزُ عن رؤيةِ الحقيقةِ التي أُدرِكَت لاحقاً، والتي تنصُّ على عدم سَرَيانِ الجزمِ العلميِّ التامِّ والمُطلق، سواءً في العلومِ الفيزيائيةِ أم البيولوجية (من المهمِّ ملاحظة علاقة ذلك مع الثقةِ المكنونةِ لعلومِ ذاك الوقت). بالتالي، سادَ العجزُ عن فهمِ استحالةِ إخضاعِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ لمعادلاتٍ علميةٍ قاطعة. فالطبيعةُ الاجتماعيةُ ثقافةٌ بذاتِها. وهي تَطفَحُ كلَّ لحظةٍ بتداعياتِ الذهنيةِ الفعالةِ التي لا تَسَعُها قبضةُ اليد. بناءً عليه، فالموقفُ العلميُّ المتسترُ وراء الأخطاءِ التي تُطابِقُ قوانينَ الطبيعةِ الاجتماعيةِ مع القوانينِ الداروينيةِ الفيزيائيةِ أو البيولوجية. الخطأُ الثاني متعلقٌ بفلسفةِ التاريخ. حيث لَم يَجرِ الانتباهُ إلى كونِ المجتمعِ بذاتِ نفسِه ظاهرةً تاريخية، ولكنْ مع ضرورةِ تقييمِه كطبيعةٍ ثانيةٍ ومغايرة. بل وحتى لَم يُرَدْ فَهمُ أنّ الحاضرَ الاجتماعيَّ هو بنسبةٍ كبرى تاريخٌ اجتماعيّ. فالفكرُ التنويريُّ لا يفسحُ المجالَ أمام هكذا إدراك. وما يتبقى هو التقييماتُ الرأسمالية التي صاغَتها الآراءُ العالميةُ الوضعيةُ الفظةُ التي أَفرَغَتها الليبراليةُ من جوهرِها. بالتالي، اعتُبِرَت الرأسماليةُ المجتمعَ الوحيدَ المسيطرَ والتقدميَّ حسبَ عصرِه. أي أنّ الأمرَ تَعَدّى النظرَ إلى الرأسماليةِ كشكلٍ من أشكالِ الاستغلال، فطابَقَها مع المجتمعِ الجديدِ وساواها به. هكذا، لا يُمكِنُ إلا لأسلوبٍ استغلاليٍّ كالرأسماليةِ أنْ ينهبَ الكيانَ المجتمعيَّ العالميَّ والمجتمعَ البشريَّ المُعَمِّرَ ملايين وربما ملياراتِ السنين، ويَسلبَه بأساليبَ لاإنسانية، وبالتالي لا دُنيَوية. ومع ذلك، فقد عُدَّت الرأسماليةُ حقيقةَ المجتمعِ المُحرِزِ للنصر! وهنا مَربضُ الفرسِ في ضعفِ البراديغما الماركسية. بالتالي، فهذا أيضاً هو العاملُ الأوليُّ الكائنُ خلفَ انهيارِ الاشتراكيةِ المشيدة. وأيُّ حركةِ تتطلعُ إلى تصحيحِ وإعادةِ ترتيبِ الماركسيةِ أو الاشتراكيةِ المشيدة، عليها بالانطلاقِ من هذه الحقيقة.
شرحُ الاشتراكيةِ لنفسِها اصطلاحاً بأنها المجتمعية، هو أمرٌ صائب. الخطأُ هو مصطلحُ “المجتمع الرأسمالي”، والقولُ بعدمِ الوصولِ إلى الشيوعيةِ إلا بتجاوُزِ شكلِ المجتمعِ هذا. فقبلَ كلِّ شيء، ودون رسمِ ملامحِه وإطارِه جيداً، ينبغي التخلي عن تقييمِ مصطلحِ المجتمعِ الرأسماليِّ وكأنه حقيقةٌ اجتماعيةٌ عامة (يجب إضافة نماذج المجتمعات الأخرى من عبودية وإقطاعية وما شابه أيضاً).الأصوَبُ هو النظرُ إلى الرأسماليةِ على أنها مرضٌ اجتماعيٌّ قاتل، وتَضَخُّمُ وَرَمٍ اجتماعيٍّ من النوعِ السرطانيّ. كلُّ المجتمعاتِ السابقةِ للرأسمالية، بما فيها تلك المسماةُ بالعبوديةِ والإقطاعية، اعتَبَرَت أشكالَ الاستغلالِ التي من نوعِ الرأسماليةِ انحطاطاً أخلاقياً فظيعاً، وأَرغَمَتها على العيشِ على هامشِ الحياةِ وفي التَصَدُّعاتِ والشقوقِ المجتمعية. سنكتفي بلفتِ الأنظارِ هنا، نظراً لأننا عمِلنا في المجلَّداتِ السابقةِ على تحليلِ الانتصارِ المهيمنِ لهذا الوحشِ المُسَلَّطِ على المجتمع. أما الترويجٌ لتَطَفُّلِ مَرضٍ اجتماعيٍّ حقيقتُه على هذه الشاكلة، ووصفُه بـ”المجتمع الأكثر تقدميةً، المجتمع المنتصر”؛ فقد أَلحَقَ الخَلَلَ بجميعِ العلومِ الاجتماعية. ولهذا السببِ بالتحديدِ أقولُ أنّ النشاطاتِ الذهنيةَ المعنيةَ بالرأسماليةِ أيدلويوجيةٌ محضة، وأنّ الرأسماليةَ نظامُ استغلالٍ ونظامُ آلهةٍ غيرِ مُقَنَّعين، مُمَوَّهين بقَداسةٍ (مجازية) تُضارِعُ ألفَ مرةً ما عليه نُظُمُ الكهنةِ السومريين من استغلالٍ وتأليه.هذا ولا علاقة لتلك النشاطاتِ بعلمِ الاجتماعِ على صعيدِ الحقيقة. بل موضوعُ الحديثِ هنا هو مجردُ ترتيبِ المصطلحاتِ العلميةِ بمهارةٍ ملحوظةٍ على شكلِ سَوِيّات (علوم اقتصادية وسياسية)، ومن ثمَّ عرضُها وكأنها عِلم.
المجتمعُ طبيعةٌ مختلفةٌ من حيث هو حصيلةُ تطورٍ تدريجيٍّ دامَ ملايين السنين، واستمرارٌ لعالَمِ الأحياءِ الأسبق منه، وثمرةُ عالَمِ عقليٍّ وعاطفيٍّ مذهل. إنه يتسمُ بتكاملٍ كليٍّ كهذا. إذن، فهو كونٌ مُدرِكٌ لذاتِه، وعمرُه خمسةَ عشر مليار سنة (تاريخ الكون). أما خَلقُ المجتمعِ الاستغلالِ الرأسماليِّ للمجتمع، فهو زعمٌ قيمتُه لا تَذهبُ أبعدَ من قولِ الفراعنةِ والنماردةِ بخَلقِهم للإله. بهذا المعنى، فـ”المجتمعُ الرأسماليُّ” ادعاءٌ فرعونيٌّ مصطنَعٌ وزائف. الصحيحُ هو اصطلاحُ الرأسماليةِ (وخاصةً حالتُها كرأسِ مالٍ ماليٍّ مُغالٍ في الجُورِ والطغيان) بأنها مرضٌ اجتماعيّ. لذا، فالحديثُ عن علمٍ اشتراكيٍّ يدأبُ على إنقاذِ البشريةِ من الرأسماليةِ وكأنه يواظبُ على تطويرِ علمٍ صحيّ، سوف يَكُونُ موقفاً مفهوماً أكثر، ومشحوناً بالأخلاقيةِ أكثر (ويجب أنْ يَكُونَ كذلك). وإلا، فلن نستطيعَ إيضاحَ الحروبِ والقنبلةِ الذرّيةِ والتضخمِ السكانيِّ ودمارِ البيئةِ الجاري خلالَ القرونِ الخمسةِ الأخيرةِ في حالِ العكس. من هنا، يتوجبُ إيلاء قيمةٍ عُليا للكلانِ والقبيلةِ والقومِ والأمة، بل وحتى للكياناتِ الاجتماعيةِ ذاتِ الطابعِ الوطنيِّ الخارجِ عن نطاقِ الدولةِ القومية، والتي نَظَرَت إليها الحداثةُ الرأسماليةُ الليبراليةُ ونسختُها الاشتراكيةُ المشيدةُ المعدَّلةُ في آنٍ معاً على أنها بقايا اجتماعيةٌ متخلفة. فجميعُ أشكالِ المجتمعِ المتباينةِ هذه نفيسةٌ وثمينة. وبِحُكمِ الدياليكتيك، يتوجبُ رؤية الكلانِ والعشيرةِ والقبيلةِ والمجتمعاتِ الشعبيةِ في حالةٍ راقيةٍ ومتكاملةٍ حتى في مجتمعِ الأمةِ الأرقى. فكما أنّ الجُزَيءَ المؤلَّفَ من مائةِ ذَرّةٍ لا يعني زوالَ الذَّرَّةِ من الوسط، بل ويُنظَرُ إليه على أنه حالةٌ راقيةٌ ومتكاملةٌ للذَّرّات؛ كذلك فتقييمُ مجتمعِ الكلانِ والتبايناتِ المجتمعيةِ اللاحقةِ له بمنوالٍ مشابهٍ سيؤدي أكثر إلى الحقيقةِ الاجتماعية.
إذن، والحالُ هذه، فمن دواعي حقيقةِ الاشتراكيةِ أنْ لا تُقَيَّمَ بوصفِها ترياقَ الرأسماليةِ وحسب، بل وأنها مجتمعُ جميعِ المجتمعاتِ الأسبق منه، المجتمعُ الراقي والكليُّ المتكاملُ المتطلعُ إلى تكوينِ ذاتِه بمنوالٍ مفعمٍ بالحريةِ والمساواة. لذا، دَعْ جانباً أنْ تتصاعدَ على خلفيةِ الحداثةِ الرأسمالية، بل بوِسعِها إجراء ذاتِها بما يتلاءمُ وتعريفَها، بإنقاذِها المجتمعَ التاريخيَّ من الحالةِ المَرَضِيّةِ للحداثةِ الرأسمالية، والمتماهية في هيئةِ “اللوياثان” العصريِّ و”القفصِ الحديديِّ” المُسَلَّطِ على المجتمع. كما وبمقدورِ الاشتراكيةِ أنْ تترسخَ على أرضيتِها التاريخيةِ من جهة، وأنْ تَنضجَ من الجهةِ الثانيةِ وتستحدثَ ذاتَها بمكاسبِها الراهنة (بالقيمِ المُنجَزةِ في سياقِ الكفاحِ ضد الرأسمالية)؛ بشرطِ تطهيرِ نفسِها من بقايا الاحتكاراتِ القمعيةِ والاستغلاليةِ الاستعباديةِ المفروضةِ على الواقعِ الاجتماعيِّ طيلةَ مسارِ تاريخِ المدنية، ولو ليس بالكَمِّ الذي هي عليه في الرأسمالية.
لننتبِه، فنحن في هذا الموقفِ لا نستخدمُ أسلوباً قطعياً ومتقدماً على خطٍّ مستقيمٍ من قبيلِ القولِ بالمجتمعِ القديمِ والجديد، أو بالمجتمعِ العبوديِّ والإقطاعيِّ والرأسماليِّ والاشتراكيّ. بل نتَّخِذُ من التطورِ الاجتماعيّ، والتكامل والالتحام، والتحرر، والمساواة المبنيةِ على الاختلاف والتباين، وما شابهَها من المصطلحاتِ أساساً لنا. والأهمُّ هو أننا لا نَعتَبِرُ الاشتراكيةَ حالةَ مجتمعٍ سيُعاشُ مستقبلاً بعد ثورةٍ أو تطورٍ طبيعيّ. وبالأصل، فهكذا موقفٌ يُخالفُ حقيقةَ الحياةِ في طبيعةِ المجتمع. ذلك أنّ النوعَ البشريَّ مجتمعيٌّ على الدوام. ولا يجري عيشُ الماضي والحاضرِ والمستقبلِ بفصلِهم عن بعضِهم بعضاً. بل تُعاشُ الحالاتُ الثلاثُ سويةً وبالتداخل. فاللحظةُ الحاضرةُ مستقبلٌ بقدرِ ما هي ماضٍ. لذا، ثمة حاجةٌ ماسةٌ هنا لسلوكِ موقفٍ فلسفيٍّ سديد. ولا معنى كثيراً لتقييمِ فلسفةِ الزمانِ بأنها ماضٍ أزليٍّ أو مستقبلٌ سرمديّ. إذ لا يُمكِننا تعريف الزمانِ إلا بكونِه نشوءَ الوجود. أي أنّ نشوءَ أيَّ موجودٍ كان هو زمانُه. وما من زمانٍ آخر عدا ذلك. وما دامَ الأمرُ كذلك، فزمانُ المجتمعِ هو نشوءُه. ونظراً لمرورِ المجتمعِ بحالةِ نشوءٍ متواصلة، إذن، والحالُ هذه، فالماضي والحاضرُ والمستقبلُ مندمجون ومُختَفون في بعضِهم البعض. بناءً عليه، فتَصَوُّرُ المجتمعِ على أنه حالةُ تطوُّرٍ على مراحل ضمن خطٍّ مستقيمٍ تفصلُها عن بعضِها بعضاً فواصلُ بَينيةٌ طويلة؛ إنما هو تصوُّرٌ خاطئ، ويُمَهِّدُ السبيلَ أمام تقييماتٍ اجتماعيةٍ يستحيلُ الخَلاصُ من وطأتِها.
حقيقةُ الحياةِ الأقربُ إلى الحقيقةِ واليقين، هي عيشُ الحقيقةِ الاجتماعيةِ مليئةً ومُفعمةً باستمرار، أي عيشُها بكلِّ زخمِ إرثِها الماضي، وبعنفوانِ النشوءِ في لحظتِها الحاضرةِ، وبآمالِ وأمنياتِ مستقبلِها الطليقِ الفسيح. واعتبارُ تحقيقِ هكذا طرازٍ من الحياةِ قضيةً أوليةً في النظريةِ والممارسةِ الاشتراكية، يتحلى بقيمةٍ عُليا. ويَكتسبُ هذا التحقُّقُ معناه كتعبيرٍ عن الحقيقةِ الاجتماعيةِ من جهة، وكعيشٍ صائبٍ لها من الجهةِ الثانية. وعوضاً عن النظرِ إلى الاشتراكيةِ كمشروعٍ أو برنامجٍ معنيٍّ بالمستقبلِ فحسب، ينبغي تصييرها حقيقةً بوصفِها طرازَ حياةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ تُؤَمِّنُ الحريةَ لحظياً، وتَرصدُ المساواةَ والعدالة، وتتحلى بالقِيَمِ الجمالية. أي أنّ الاشتراكيةَ طرازُ حياةٍ واعيةٍ تُعَبِّرُ عن الحقيقة. من هنا، يتوجبُ العيشُ كحكيمٍ ومؤمنٍ في الزمانِ القائم، بِما يُشابِه طرازَ الحكماءِ والمؤمنين الذين نصادفُهم بكثرةٍ في أمثلةِ التاريخ. فالفرديةُ المعَبِّرةُ عن التدني الأخلاقيِّ في الليبرالية، ليست بحرية، بل هي شكلُ العبوديةِ المُفروضُ عيشُه بأحطِّ الدرجاتِ وبوعيٍ زائف. والاشتراكيةُ من حيث كونِها مضادةً للّيبرالية، هي أيديولوجيةُ عيشِ الحريةِ في الممارسةِ الجماعيةِ وفي الأخلاق.
علينا ألا نُبالغَ من شأنِ الرأسماليةِ في وجهةِ نظرِنا الاجتماعية. ونخصُّ بالذِّكرِ في هذا الخصوصِ أنّ الزعمَ بكَونِ عصرِنا عصرَ السيطرةِ والسيادةِ المطلقةِ للإمبرياليةِ والرأسماليةِ اللتَين تُعَدّان شكلَ الحياةِ اليوميةِ فيه، إنما يُحيطُ الرأسماليةَ بمعانيَ ليست جديرةً بها. إنه زعمٌ غيرُ صحيح، وضلالٌ وزيغٌ متشكلٌ زيادةً عن اللزومِ تحت ظلِّ الدعايةِ والترويج. وهو حربٌ أيديولوجيةٌ تقتاتُ على الترويجِ للرعب. أما الحقيقة، فهي أنّ الرأسماليةَ نظامٌ مَحكومٌ عليه بالبقاءِ دوماً على الهامش، ونهبٌ وسلبٌ لا مجتمعيٌّ يرمي إلى بسطِ نفوذِه بالطغيانِ الفاشيّ. إنها نظامُ الأربعين حرامي. فكيفما صُيِّرَ الناسُ عبيداً أقزاماً بعدَ تقديسِ وتأليهِ الحاكمِ المستبِدِّ الظالمِ في العصورِ القديمة، كذلك للرأسماليةِ أيضاً هيمنتُها الأيديولوجيةُ المتولدةُ عن نتائج شبيهةٍ في عصرِنا الحاليّ. ما يَسري هنا هو عبوديةٌ وتَقَزُّمٌ تُغَذّيهما تلك الهيمنةُ عن طريقِ الحروبِ الباردةِ والساخنة.
هذا ومن الخطأِ أيضاً النظرُ إلى الاشتراكيةِ بوصفِها مجتمعاً سيُحظى به دوماً بالثوراتِ والحروب. لا ريب أنّ الحروبَ أيضاً ممكنةٌ من أجلِ تحقيقِ تحولاتٍ ثوريةٍ إذا ما تَكَوَّنَت الظروفُ اللازمة. لكنّ الاشتراكيةَ لا تعني الثورةَ فقط، بل هي المشاركةُ الديمقراطيةُ في المجتمع، والحياةُ الواعيةُ والميدانيةُ ضد الرأسمالية. في حين أنّ القولَ “ستتحققُ الثورةُ ثم تَسُودُ الحياةُ الاشتراكية”، ليس إلا خداعاً للذاتِ وعَقدَ الأملِ على أمنياتٍ جوفاء لا أصل لها. فبقدرِ ما يُعاشُ الماضي بوعيٍ وطيدٍ لتصييرِه حاضراً، كذلك يُعاشُ المستقبلُ بمواجهتِه بوعيٍ ومتانة. ما من شكٍّ في ضرورةِ القيادةِ الاستراتيجيةِ والتكتيكيةِ في جميعِ هذه المراحل. لكنّ اعتبارَ الاشتراكيةِ ممارسةً ميدانيةً ستُنفَّذُ بهكذا ضربٍ من المصطلحاتِ العسكرية، سيُفسحُ الطريقَ أمام أخطاءٍ فادحةٍ لا تُغتَفَر. وقد مُورِسَت الاشتراكيةُ المشيدةُ بأحدِ جوانبِها على هذه الشاكلة، فانهارَت وتناثرت بعدَما أصابَها الإرهاق. ثمة حاجةٌ مُلِحّةٌ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى للحركاتِ والأحزابِ والتحالفاتِ الاشتراكيةِ التي تَعمَلُ أساساً بالمجتمعِ التاريخيِّ المُؤَطَّرِ عموماً ببراديغما العصرانيةِ الديمقراطية، والتي تُعِدُّ وتُسَلِّحُ نفسَها بالإدارةِ الكونفدراليةِ الديمقراطيةِ والبيئويةِ والاقتصاديةِ في وجهِ المجتمعِ الاستهلاكيِّ المُحاصَرِ على يدِ صناعويةِ الرأسماليةِ ودولتيتِها القومية، والذي يدمرُ البيئةَ بعدَ بَترِه أواصرَه بها. إنّ صياغةَ النظريةِ الاشتراكيةِ في ظلِّ هكذا نموذجٍ من المخطوطات، وإدراجَها قيدَ التنفيذِ لَم يَفقدْ من أهميتِه شيئاً البتة. عِلماً أنّ هذه ليست فقط حركةً تنظيميةً متناميةً بوعيٍ طليعيٍّ في وجهِ الهيمنةِ الرأسمالية، بل هي حركةٌ مجتمعيةٌ حقيقيةٌ مستمرةٌ طيلةَ مسارِ التاريخِ بالمضمونِ عينِه، ولكن باستقاماتٍ وتَوَجُّهاتٍ أيديولوجيةٍ وعمليةٍ مختلفة. المجتمعُ الحقيقيُّ هو طبيعةُ هذه الحركة، والمجتمعيةُ وظيفتُها بالتحديد. لقد تواجدَت جنباً إلى جنبٍ مع جميعِ نُظُمِ المدنية، ولكنها بقيَت على تضادٍّ معها بقدرِ ما جرى عيشُها بصورةٍ ممنهَجة.أما عدمُ إدراكِها كفايةً، فيُعزى إلى الدعايةِ الأيديولوجيةِ التي أَطلَقَها الطرفُ المقابل. من هنا، فالحقائقُ الاجتماعيةُ هي الاشتراكيةُ بذاتِ نفسِها، وستَظلُّ قائمةً كطرازٍ للحياة، ما دامَ المجتمعُ قائماً. بهذا المعنى، فالتاريخُ ليس محضَ صراعٍ طبقيٍّ فحسب، بل وهو كفاحُ حمايةِ المجتمعِ وصَونِ حريتِه ومساواتِه تجاه السلطةِ والدولةِ المهيمنة. والاشتراكيةُ هي تاريخُ هذا الكفاحُ الاجتماعيُّ الصائرُ عِلمياً مع مُضِيِّ الوقت.


Warning: Undefined variable $meta_text in /home/abdullahocalan/public_html/ar/wp-content/themes/xwe/content-single.php on line 53