الأمة الديمقراطية

عبد الله أوجلان

كفاحاتُ الأمةِ المتطلعةِ إلى الدولةِ والدولةِ المتطلعةِ إلى الأمة، هي المؤثِّرُ المِحوريُّ في الواقعِ الدمويِّ للعصر. وتحقيقُ مُلاقاةِ السلطةِ والدولةِ مع الأمة، هو المنبعُ العَينُ لقضايا عصرِ الحداثة، والتي إذا ما قارنّاها مع القضايا الناجمةِ من الدولِ الديكتاتوريةِ والسلالاتية، سنَجِدُ أنّ أكبرَ فارقٍ بينهما تُكَوِّنُه أمةُ الدولة. فالدولةُ القوميةُ التي هي إحدى المواضيعِ الأكثر تعقيداً في علمِ الاجتماع، تُعرَضُ وكأنها عصا سحريةٌ وأداةٌ لحلِّ جميعِ القضايا الخارجةِ على العصرِ والتي تَبدو ظاهرياً معارِضةً للحداثة. بينما مضموناً تَجعَلُ من القضيةِ الاجتماعيةِ الواحدةِ أَلفاً. والسببُ في ذلك يَعودُ إلى تسريبِها جهازَ السلطةِ حتى أدقِّ الأوعيةِ الشعريةِ للمجتمعات. والسلطةُ بِحَدِّ ذاتِها تُفرِزُ المشاكل، وتنمُّ عن القمعِ والاستغلالِ كقضايا اجتماعية، نظراً لطابعِها الكمونيِّ لرأسِ المال المُنَظَّمِ في هيئةِ العنف. ذلك أنّ مجتمعَ الأمةِ النَّمَطيّةِ الذي تَرمي إليه الدولةُ القومية، يُنشِئُ مواطنين مُصطَنَعين ومُزَيَّفين،مشحونين بالعنف، يَبدون متساوين (حقوقياً كما يُزعَم)، إذ عُمِلَ على مُساواتِهم ببعضِهم بعضاً بِبَترِ جميعِ أعضاءِ المجتمعِ بِمِنشارِ السلطة.هذا المواطنُ متساوٍ مع غيرِه حسبَ التعبيرِ القانونيّ، لكنه يعاني أقصى درجاتِ اللامساواةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ فرداً وكياناً جماعياً.

تنظيمُ الحداثةِ الرأسماليةِ لنفسِها كدولةٍ قومية، يؤدي دوراً قمعياً واستغلالياً أكبر من تنظيمِها لذاتِها كاحتكارٍ اقتصاديّ. من هنا، فالنقصانُ الفادحُ والتحريفُ الأوليُّ للماركسيةِ خصوصاً والسوسيولوجيا عموماً، يتجسدان في القصورِ عن رؤيةِ أواصرِ الدولةِ القوميةِ مع القمعِ والاستغلال، أو في تقديمِ الدولةِ القوميةِ كمؤسسةٍ اعتياديةٍ جداً في البنيةٍ الفوقية. ولدى القيامِ بتحليلِ الطبقاتِ ورأسِ المالِ الماديِّ بنحوٍ مستقلٍّ عن الدولةِ القومية، فإنه يُعَدُّ تعميماً تجريدياً أَعشَماً وغيرَ طَرِيٍّ وعاجزاً عن إفرازِ أيةِ نتيجةٍ اجتماعيةٍ مثمرة. وهذا التجريدُ يتخفى وراءَ فشلِ الاشتراكيةِ المشيدة. أو بالأحرى، فالنتائجُ المرتبطةُ بهذا التجريدِ قد لعبَت دورَها في فشلِها.

الأمةُ اصطلاحاً هي شكلُ المجتمعِ الذي يَلي تَحَوُّلَ الكلاناتِ والعشائرِ وقبائلِ القُربى إلى كياناتٍ كالقومِ أو الشعبِ أو المِلَّة، والذي غالباً ما يُصَنِّفُ ذاتَه وفقَ اللغةِ والثقافة. ومجتمعاتُ الأمةِ أوسعُ نطاقاً وأكبرُ حجماً من مجتمعاتِ القبائلِ والأقوام. ولهذا، فهي تجمعاتٌ بشريةٌ تَربطُها ببعضِها بعضاً روابطٌ رخوة. مجتمعُ الأمةِ ظاهرةٌ من ظواهرِ عصرِنا بالأكثر. وإذ ما صِيغَ تعريفٌ عامٌّ له، فبالإمكانِ القولُ أنه تَجَمُّعٌ مِمَّن يتشاطرون ذهنيةً مشتركة. أي أنه ظاهرةٌ موجودةٌ ذهنياً. بالتالي، فهو كيانٌ مجردٌ وخياليّ. وبمستطاعِنا تسميته أيضاً بالأمةِ المُعَرَّفةِ ثقافياً. وهذا هو التعريفُ الصائبُ سوسيولوجياً. فبأعمِّ الأشكال، ومن أجلِ التحولِ إلى أمة، يَكفي أنْ يتكوَّنَ عالَمٌ ذهنيٌّ وثقافيٌّ مشترك، على الرغمِ من اختلافِ الطبقاتِ أو الجنسِ أو اللونِ أو الأثنيةِ أو حتى اختلافِ جذورِ الأمة. ولجعلِ هذه الأمةِ بتعريفِها العامِّ نموذجاً معقَّداً، فإنّ أمةَ الدولة، أمةَ القانون، الأمةَ الاقتصادية، والأمةَ العسكريةَ (مِلّة الجيش) وغيرَها، تُعتَبَرُ تصنيفاتٍ أخرى للأممِ التحتيةِ المُشتَقةِ التي تُحَصِّنُ الأمةَ العامة. وبالمقدورِ تسميتها بأممِ القوةِ أيضاً. ذلك أنّ التحولَ إلى أمةٍ قويةٍ يُعَدُّ فكرةً نموذجيةً أساسيةً للحداثةِ الرأسمالية. حيث تُسفرُ الأمةُ القويةُ عن امتيازاتِ رأسِ المالِ والسوقِ الواسعةِ وفُرَصِ الاستعمارِ والإمبريالية. بناءً عليه، فمن الأهميةِ بمكان عدم النظر إلى هكذا أممٍ مُحَصَّنةٍ على أنها النموذجُ الوحيدُ للأمة، بل وينبغي تناولها بأنها أممُ القوةِ الشوفينية، والأممُ المُسَخَّرةُ لرأسِ المال. وتشكيلُها لمنبعِ المشاكلِ والقضايا يُعزى أصلاً إلى سماتِها هذه. أما الأمةُ الديمقراطية، فهي نموذجُ الأمةِ القابلُ للاشتقاقِ من الأمةِ الثقافية، والذي يَلجمُ القمعَ والاستغلالَ ويدحضُهما. فالأمةُ الديمقراطيةُ هي الأمةُ الأدنى إلى الحريةِ والمساواة. وتأسيساً على هذا التعريف، فهي تُشَكِّلُ مفهومَ الأمةِ المُثلى للمجتمعاتِ الهادفةِ إلى الحريةِ والمساواة.

عدمُ قيامِ الحداثةِ الرأسماليةِ وعلمِ السوسيولوجيا المُستقى منها بتناوُلِ صنفِ الأمةِ الديمقراطية، إنما هو بِحُكمِ بُنيتِهما وهيمنتِهما الأيديولوجية. ذلك أنّ الأمةَ الديمقراطيةَ هي تلك الأمةُالتي لا تكتفي بالشراكةِ الذهنيةِ والثقافيةِ فحسب، بل وتُوَحِّدُ كافةَ مُقَوِّماتِها في ظلِّ المؤسساتِ الديمقراطيةِ شبهِ المستقلة، وتُديرُها. هذا هو الجانبُ المُعَيِّنُ فيها. أي أنّ طرازَ الإدارةِ الديمقراطيةِ وشبهِ المستقلة، هو الشرطُ الرئيسيُّ في لائحةِ صَيرورةِ الأمةِ الديمقراطية. وهي بجانبِها هذا بديلٌ للدولةِ القومية. فالإدارةُ الديمقراطيةُ بدلاً من حُكمِ الدولة، فرصةٌ عظيمةٌ للحريةِ والمساواة. في حين أنّ السوسيولوجيا الليبراليةَ إما أنها تُطابِقُ الأمةَ أساساً مع دولةٍ مُشادة، أو مع حركةٍ تَهدفُ إلى تشييدِ دولة. وكَونُ حتى الاشتراكيةِ المشيدةِ سارت في هذا المنحى، هو مؤشرٌ على مدى قوةِ الأيديولوجيا الليبرالية. أما الحداثةُ البديلةُ في الأمةِ الديمقراطية، فهي العصرانيةُ الديمقراطية. في حين يُشَكِّلُ الاقتصادُ المُطَهَّرُ من الاحتكار، والأيكولوجيا الدالةُ على التأقلمِ والتناغمِ مع الطبيعة، والتقنيةُ الصديقةُ للطبيعةِ والإنسان؛ يُشَكِّلُ الأرضيةَ المؤسساتيةَ للعصرانيةِ الديمقراطية، وبالتالي للأمةِ الديمقراطية.

ظاهرتا الوطنِ المشتركِ والسوقِ المشتركةِ المطروحتان كشرطٍ أساسيٍّ للمجتمعاتِ القومية، لا تُعتَبَران سمةً مُحَدِّدةً للأمةِ بوصفِهما عاملاً مادياً. فمثلاً، وبالرغمِ من بقاءِ اليهودِ بلا وطنٍ حقبةً طويلةً من الزمن، إلا أنهم عاشوا مدى التاريخِ في كافةِ الأقاصي الثريةِ من المعمورةِ كأمنعِ أمة. ورغمَ عدمِ امتلاكِهم سوقاً وطنية، إلا أنهم عَرِفوا كيف يصبحون الأمةَ الوحيدةَ الأقوى في أسواقِ العالَمِ جمعاء. ما من شكٍّ في أنّ الوطنَ والسوقَ أداتان تحصينيتان منيعتان جداً من أجلِ أمةِ الدولة. وقد شُنَّت أكثرُ الحروبِ عدداً وأشدُّها دمويةً في التاريخِ في سبيلِهما. فالوطنُ ثمينٌ جداً كساحةِ مُلك، والسوقُ نفسيةٌ جداً كميدانِ ربح. أما مفهومُ الوطنِ والسوقِ في الأمةِ الديمقراطية، فهو مغاير. تَنظرُ الأمةُ الديمقراطيةُ بعينِ التبجيلِ إلى الوطن، لأنه فرصةٌ عظيمةٌ من أجلِ ذهنيةِ الأمةِ وثقافتِها، بحيث محالٌ التفكيرُ في ذهنيةٍ أو ثقافةٍ لا مكانَ للوطنِ في ذكرياتِها وذاكرتِها. ولكن، يجب عدم النسيانِ قطعياً أنّ مصطلحَ الوطنِ أو البلدِ، الذي أَضفَت الحداثةُ الرأسماليةُ مسحةً من الفَتَشيّةِ والبُدّيّةِ عليه، وصَيَّرَته متقدماً على المجتمعِ مَنزِلةً، يَهدفُ إلى الربحِ والكسب. إذ من المهمِّ أيضاً عدم المغالاةِ في الوطن. فمفهومُ “كلُّ شيءٍ في سبيلِ الوطن” ينبعُ من مفهومِ الأمةِ الفاشية. والأجدرُ هو نَذرُ كلِّ شيءٍ في سبيلِ مجتمعٍ حرٍّ وأمةٍ ديمقراطية. هذا ومن الضروريِّ عدم إعلاءِ ذلك أيضاً إلى مستوى العبادة. فلُبُّ الأمرِ يكمنُ في تصييرِ الحياةِ قَيِّمَةً ثمينة. أي أنّ الوطنَ ليس غاية، بل هو مجردُ وسيلةٍ بالنسبةِ لحياةِ الأمةِ والفرد. وبينما تَهرعُ أمةُ الدولةِ وراءَ المجتمعِ النمطيّ، فغالباً ما تتألفُ الأمةُ الديمقراطيةُ من التجمعاتِ والكياناتِ المختلفة، وترى اختلافاتِها مصدرَ غِنى. والحياةُ بذاتِ عينِها ممكنةٌ أصلاً بالاختلافِ والتباين. والدولةُ القوميةُ، التي تُرغِمُ على صيرورةِ نمطٍ واحدٍ من المواطنِ الصادرِ من مِخرطةٍ واحدة، مُناقِضةٌ للحياةِ بجانبِها هذا أيضاً. ذلك أنّ هدفَها النهائيَّ هو خلقُ إنسانٍ آليّ. وهي بمَنحاها هذا تنساقُ في الحقيقةِ صوب الفناءِ والعَدَم. أما مواطنُ أو عضوُ الأمةِ الديمقراطية، فمختلف، وينتهلُ اختلافَه هذا من مختلفِ التجمعات. وحتى وجودُ العشائرِ والقبائلِ يُعَدُّ مصدرَ غنىً بالنسبةِ للأمةِ الديمقراطية.

إلى جانبِ كونِ اللغةِ هامةً دون شكّ بقدرِ الثقافةِ بالنسبةِ للأمة، إلا إنها ليست شرطاً حتمياً. فالتبعيةُ إلى لغاتٍ مختلفةٍ ليست عائقاً أمام الانتماءِ إلى الأمةِ عينِها. وكيفما لا معنى لوجودِ دولةٍ واحدةٍ فقط لكلِّ أمة، فكذا لا معنى للاقتصارِ على لغةٍ أو لهجةٍ واحدةٍ من أجلِ كلِّ أمة. من هنا، وإلى جانبِ ضرورةِ اللغةِ القومية، لكنها ليست شرطاً حتمياً لا مناصّ منه. بل وبالمستطاعِ النظر إلى تعددِ اللغاتِ واللهجاتِ بعينِ الغِنى بالنسبةِ إلى أمةٍ ديمقراطية. لكنّ الدولةَ القوميةَ تَعملُ أساساً بإرغامِ اللغةِ الواحدةِ وبمنوالٍ قطعيٍّ صارم، ولا تُتيحُ الفرصةَ يسيراً للتعددِ اللغويّ، وخاصةً لتعددِ اللغاتِ الرسمية. بل تسعى بجانبِها هذا إلى الاستفادةِ من امتيازاتِ الجانبِ الطاغي والسائدِ للأمة.

بالوِسعِ الحديثُ عن أمةِ القانونِ مفهوماً ووِفاقاً، في الأجواءِ التي يتعسرُ فيها النماءُ على الأمةِ الديمقراطية، وتَعجزُ الدولةُ القوميةُ ضمنها عن حلِّ القضايا. وما الحلُّ الذي يُعَبَّرُ عنه بصيغةِ “المواطَنة الدستورية”، في حقيقتِه سوى أمةُ القانون.فالمواطَنةُ القانونيةُ حسب الدستور، لا تَتَّخذُ من التمييزِ العِرقيِّ أو الأثنيِّ أو القوميِّ أساساً. وهكذا خصائص لا تُوَلِّدُ الحقوق. وأمةُ القانونِ تصنيفٌ مُتَنامٍ بجانبِها هذا. ونخصُّ في هذا المضمارِ الأممَ الأوروبيةَ التي تنتقلُ تدريجياً من الأممِ المِلّيةِ صوبَ أممِ القانون. الأساسُ هو الإدارةُ شبهُ المستقلةِ في الأممِ الديمقراطية، والحقوقُ في أمةِ القانون. أما في الدولةِ القومية، فالمُعَيِّنُ هو حُكمُ السلطة. في حين أنّ نموذجَ الأمةِ الخطير هو ذهنيةُ “مِلّة الجيش” وتمأسُسُها. ذلك أنها تحتوي بين طياتِها ذهنيةً لا يُطاقُ العيشُ فيها، ذهنيةً تفرضُ تُرغِمُ على الوظائفِ دوماً، وتَصِلُ حدَّ الفاشيةِ على الرغمِ من مَظهرِها الذي يُوحي بأنها تُمَثِّلُ أمةً قويةً وطيدة. أما الأمةُ الاقتصادية، فهي تصنيفٌ قريبٌ من الدولةِ القومية. مفهومُ الأمةِ هذا، الذي يَعتَرفُ بالدورِ الرئيسيِّ والمِحوريِّ للاقتصادِ كما في أمريكا واليابان وحتى في ألمانيا، كان أكثر رسوخاً في أوروبا ماضياً. في  حين، يتعسرُ القولُ بالنجاحِ الملحوظِ لصنفِ الأمةِ الاشتراكية، على الرغمِ من محاولاتِ تجريبِه. وهو مثالٌ نُصادفُه قسمياً في كوبا، ولكنه شكلٌ اشتراكيٌّ مشيَّدٌ للدولةِ القومية. أي أنه شكلٌ تَحلُّ فيه الدولةُ القوميةُ التي تَطغى عليها رأسماليةُ الدولة، مَحلَّ الدولةِ القوميةِ التي تَسُودُها الرأسماليةُ الخاصة.

الخاصيةُ التي ينبغي توخي الحساسيةِ والدقةِ البالغةِ فيها لدى وضعِ نظريةِ الأمةِ في الأجندة، هي حقيقةُ تقديسِ وتأليهِ الأمة. فالحداثةُ الرأسماليةُ أَنشَأَت ألوهيةَ الدولةِ القوميةِ بالتحديد، بدلاً من المفاهيمِ الدينيةِ والإلهيةِ التقليدية. هذه نقطةٌ جدُّ هامة. فإذ ما فسَّرنا الأيديولوجيةَ القومويةَ بكونِها دينَ الدولةِ القومية، فسنتمكنُ من الإدراكِ أنّ الدولةَ القوميةَ نفسَها هي إلهُ هذا الدين. والدولةُ بالذات شُيِّدَت في عصرِ الحداثةِ بمنوالٍ يَستوعبُ بين طواياه زُبدةَ كافةِ مصطلحاتِ الألوهيةِ السائدةِ في العصورِ الوسطى، بل وفي العصورِ الأولى أيضاً. فالظاهرةُ المسماةُ بـ”الدولةِ العلمانيةِ” ما هي إلا تشييدٌ أو تجسيدٌ عينيٌّ لجميعِ ألوهياتِ العصورِ الأولى والوسطى، أو هي خُلاصتُها كدولة. ويجب عدم الضلالِ أو الانخداعِ في هذا الموضوعِ بتاتاً. ولَئِنْ ما حَفَرنا تحت طِلاءِ الدولةِ القوميةِ علمانيةً كانت أم عصرية، فستظهرُ من تحتِه الدولةُ الألوهيةُ السائدةُ في العصورِ الوسطى والأولى. إذاً، ثمة عُرى وثيقةٌ للغاية بين الدولةِ والألوهية. وبنفسِ المنوالِ هناك علاقةٌ متينةٌ جداً بين مَلَكياتِ العصورِ الأولى والوسطى من جهة، ومصطلحِ الإلهِ من الجهةِ الثانية. ولدى زوالِ تأثيرِ المَلِكِ كشخصٍ بعد العصورِ الوسطى، وتَمَأسُسِه، وتَحَوُّلِه إلى دولةٍ قومية؛ قد تنحى الإلهُ – المَلِكُ أيضاً عن مكانِه لإلهِ الدولةِ القومية. تأسيساً عليه، فما يتوارى خلفَ تقديسِ مؤسساتِ الدولةِ القوميةِ بنحوٍ مشابِهٍ ومُتماشٍ مع تقديسِ مصطلحاتِ الوطنِ والأمةِ والسوق، هو الهيمنةُ الأيديولوجيةُ التي تُمَكِّنُ من قانونِ الربحِ الأعظميِّ للحداثةِ الرأسمالية. ذلك أنّه بقدرِ ما تُضفي الهيمنةُ الأيديولوجيةُ طابعاً دينياً على تلك المصطلحاتِ المعنيةِ بالأمة، فهي تستطيعُ بذلك شرعنةَ قانونِ الربحِ الأعظميّ، وتَجعلُه قيدَ التنفيذ.

الهتافُ بشكلٍ يَصُمُّ الآذانَ بالشعاراتِ والرموزِ الأساسيةِ للدولةِ القوميةِ في عصرِنا من قبيلِ “عَلَمٌ واحد”، “لغةٌ واحدة”، “وطنٌ واحد”، “دولةٌ واحدة”، و”دولةٌ مركزيةٌ واحدية”؛ تَحَسُّسُ العيونِ من الأعلامِ ذاتِ الألوانِ المُغايِرةِ واستصغارُها إياها، تصييرُ العالَمِ الذهنيِّ مَنليثياً مارداً ومَعطوباً؛ تأجيجُ نعرةِ الشوفينيةِ القومية، والإعلاءُ من شأنِها لدرجةِ جعلِها طقوساً وشعائر تُطلَقُ في كلِّ تظاهُرةٍ وخاصةً في الأنشطةِ الرياضيةِ والفنية؛ كلُّ ذلك يتوجبُ تقييمُه بأنه عباداتُ الدينِ القومويّ. في الحقيقة، فعباداتُ العصورِ القديمةِ أيضاً كانت تؤدي الوظيفةَ نفسَها. المَرامُ الأصلُ هنا هو تأمينُ سَرَيانِ منافِعِ احتكاراتِ السلطةِ ورأسِ المال، وتَمريرُها إما خِفيةً أو بتقديسِها وشرعنتِها. من هنا، سنستطيعُ استيعابَ حقيقةِ الواقعِ الاجتماعيِّ بنحوٍ سديدٍ أكثر، إذا ما تناوَلنا جميعَ المواقفِ والممارساتِ الراهنةِ المبالِغةِ والمُوارِيةِ المعنيةِ بالدولةِ القوميةِ مُؤَطَّرةً بهذه البراديغما الأساسية.

الأمةُ الديمقراطيةُ هي نموذجُ الأمةِ الذي يُعاني بأقلِّ قدرٍ من هذه الأمراضِ جميعاً. فهي لا تُقَدِّسُ إدارتَها، لأنّ الإدارةَ مُسَخَّرةٌ في خدمةِ الحياةِ اليوميةِ كظاهرةٍ شفافة. والجميعُ مُؤَهَّلٌ لأنْ يَكُونَ موظفاً إدارياً، في حالِ تلبيتِه متطلباتِها ومقتضياتِها. أي أنّ الإدارةَ قَيِّمة، لكنها ليست مقدَّسة. ومفهومُ الهويةِ الوطنيةِ منفتحُ الأطراف، وليس كعضويةٍ أو عقيدةٍ دينيةٍ منغلقة. والانتماءُ إلى أمةٍ ما ليس امتيازاً ولا عَيباً. حيث يُمكن الانتماء إلى عدةِ أمم. أو بالأصح، قد تُعاشُ أُمَمٌ مختلفةٌ متداخلة. فبمقدورِ الأمةِ الديمقراطيةِ وأمةِ القانونِ أنْ تعيشا سويةً بكلِّ يُسرٍ في حالِ الوِفاق.أما الوطنُ والعَلَمُ واللغة، وإلى جانبِ قيمتِهم العالية، لكنهم ليسوا مقدَّسين. وعيشُ الأوطانِ واللغاتِ والأعلامِ المشتركةِ بشكلٍ متداخلٍ على دربِ الصداقةِ بدلَ التضاد، ليس ممكناً فحسب، بل وهو في الآنِ عينِه ضرورةٌ من ضروراتِ حياةِ المجتمعِ التاريخيّ. من هنا، فظاهرةُ الأمةِ الديمقراطيةِ بكلِّ مزاياها هذه، تأخذُ مكانَها ومكانتَها في التاريخِ ثانيةً كبديلٍ قويٍّ للدولتيةِ القوميةِ التي هي آلةُ حربٍ طائشةٍ ومُحَفِّزةٍ على التهورِ بِيَدِ الحداثةِ الرأسمالية.

نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ باعتبارِه نموذجاً حَلاّلاً، يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ التي مَزَّقَتها النزعةُ الدولتيةُ القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُها بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة. لذا، فانعطافُ الدولةِ القوميةِ صوب الأمةِ الديمقراطية، سيَجلبُ معه مكاسب عظمى. فنموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ يتسلحُ بوعيٍ اجتماعيٍّ سديدٍ للقيامِ أولاً بتطويعِ الإدراكاتِ الاجتماعيةِ المشحونةِ بالعنف، ثم لتصييرِها إنسانية (الإنسان العاقل والمفعم بالعواطف والمشاعر، والذي يشعر بالآخرِ ويتقمصُه عاطفياً). لا ريب أنه يُحَقِّقُ ذلك بالتحجيمِ البارزِ لعلاقاتِ الاستغلالِ المُطَعَّمةِ بالعنف، ولو أنه لا يقضي عليها كلياً. وكذلك بإتاحتِه الفرصةَ لمجتمعٍ أكثر حريةً ومساواة. إنه لا يؤدي وظيفتَه هذه بالاقتصارِ على استتبابِ الأمنِ والسلامِ والسماحِ بين صفوفِه فقط، بل وبتحويلِه المواقفَ المُشَرَّبةَ بالقمعِ والاستغلالِ تجاه الأممِ الأخرى خارجياً أيضاً إلى مصالح مشتركة وتداؤبٍ وتضافُر Sinerji. لدى إعادةِ إنشاءِ المؤسساتِ الوطنيةِ والعالميةِ بناءً على البنيةِ الذهنيةِ والمؤسساتيةِ الأساسيةِ للأمةِ الديمقراطية، سوف يُدرَكُ أنّ النتائجَ التي ستُسفِرُ عنها الحداثةُ الجديدة، أي العصرانيةُ الديمقراطية، ستَكُونُ بمثابةِ النهضة، ليس نظريّاً فحسب، بل وميدانياً أيضاً. أي أنّ بديلَ الحداثةِ الرأسماليةِ هو العصرانيةُ الديمقراطية، والأمةُ الديمقراطيةُ الكامنةُ في أساسِها، والمجتمعُ الاقتصاديُّ والأيكولوجيُّ والسِّلميُّ المنسوجُ داخلَ وخارجَ ثنايا الأمةِ الديمقراطية.

السبيلُ الصائبُ والأخلاقيُّ والسياسيُّ على الإطلاقِ للنفاذِ من أزمةِ رأسِ المالِ الماليِّ العالميّ، هو الإنشاءُ السريعُ للأممِ الديمقراطيةِ الجديدةِ بمزاياها الحلاّلةِ بنحوٍ متفوقٍ وخارقٍ، عوضاً عن الدولةِ القوميةِ بذاتِ نفسِها، والتي باتت جوفاء أو أُفرِغَت من محتواها راهناً، وعوضاً عن اتحاداتِها الإقليميةِ والعالمية، وبالأخصِّ هيئة الأمم المتحدة. وهو إقامةُ الأمةِ الديمقراطيةِ مقامَ الدولةِ القوميةِ الواحدية، أو اعتبارُها حالتَها المُحَوَّلة. وكذلك تطويرُ النماذجِ الإقليميةِ (الاتحاد الأوروبيّ يسيرُ في هذا المنحى نسبياً) والعالميةِ أيضاً بشكلٍ متداخل.

 


Warning: Undefined variable $meta_text in /home/abdullahocalan/public_html/ar/wp-content/themes/xwe/content-single.php on line 53