الأيديولوجية الرسمية ونمط السلطة في كردستان

عبد الله أوجلان

أظن أنه ستُخطى أهم خطوة في النظرية الحديثة للواقع الاجتماعي، في حال كتابة قصص الأيديولوجيا والسلطة. من الضروري الإدراك أن السوسيولوجيا عجزت عن تحليل ظاهرتَي الأيديولوجيا والسلطة. ستقود التحليلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في نهاية المطاف إلى أخطر أشكال الجهالة الاجتماعية، إنْ لم يوضَّح دور تسيير كل من الأيديولوجيا والسلطة كطراز فكر وهيمنة مشتركة في تكوين النسج الاجتماعية الأخرى. وستتعقد مشكلة المعرفة والتطبيق أكثر فأكثر، إنْ لم يلاحَظ الفرق الكامن بين تطبيق الأسلوب العلمي مع المجتمع من جهة، وتطبيقه لأجل عالَم خارج نطاق المجتمع من الجهة الثانية.

تُعَدّ معرفة المجتمع لذاته منتمية إلى هذه الحقيقة الواقعة. ولربما كانت المزية الأساسية للمجتمع هي تعريفه لذاته. حيث من الصعب الحديث عن وجود مجتمع لا يقدر على تعريف ذاته. وبالمقدور وصف هذه الحالة بتحول المجتمع إلى جثة أو نعش. الاسم الآخر لتعريف الذات هو الأيديولوجيا الاجتماعية. أما الأيديولوجيا، فيمكن تعريفها بأنها مجموع الأفكار المشتركة البالغة مستوى الإرادة. الاسم الثاني لها أيضاً هو الأخلاق الاجتماعية، التي تتمثل فاعليتها الأولية في حسم الوجود الاجتماعي. والوجود الاجتماعي بدوره لا يتحقق إلا بتبني الذات، أي ببلوغ مستوى القوة الأيديولوجية. وهكذا تكتمل الحلقة.

إلى جانب الأواصر الكثيبة للسلطة مع الأيديولوجيا، إلا إن الأولى هي المحدِّدة بشكل خاص في المجتمعات التسلطية، كظاهرة مختلفة بحد ذاتها. والسلطة بذاتها تعني تمأسس العنف في المجتمع. وهي وسيلة تمويه العنف. لذا، ربما لا يمكن تعريف السلطة بمفردها. فتعريف قناعٍ ما أمرٌ غير ممكن، إلا بتحديد الشيء الذي يكون ذاك القناع وسيلة لتمويهه. فالأقنعة لا تُعَرَّف بمفردها. والعنف لا يُفهَم إلا لدى انفجاره. حينها يسقط القناع، ويُدرَك أنه لم يكن شيئاً قائماً بحد ذاته. وحتى لو كان ذلك، فسيُرى بجلاء أكبر أنه شيء مُكمِل للعنف، وهو وجهه المخادِع. لا يكون المجتمع الذي يحدِّده العنف في حالة طبيعية، بل في حالة انفجار. ويندر وجود حالة الانفجار المستمر في المجتمعات، مثلما هي حال الطبيعة أيضاً. لكن تبادل العلاقات الأعظمية بين الذكاءَين العاطفي والتحليلي، واتحادهما، قابل لعرقلة حدوث الانفجارات الاجتماعية (الحرب، الثورة، الثورة المضادة، الانتفاضة، والنزاع). ولدى تحولها إلى مشكلة، فمؤكد إمكانية إيجاد الحلول الخالية من الانفجارات. أي، من غير الواقعي الزعم بعدم وجود سبيل آخر سوى العنف والسبل العسكرية.

ثمة ضرورة لصياغة هذه التعاريف الوجيزة لأجل دراسة الأيديولوجيا الرسمية والسلطة في كردستان. الأيديولوجيا الرسمية هي وسيلة لصون الوضع القائم لسلطة الدولة الموجودة في المجتمع، وأداة لإضفاء المشروعية عليه. وهي أداة خلق الذهنية وتطبيقها، بغرض حظي سلطة الدولة بالمصادقة الأحادية الجانب عليها، ومواصلة وجودها. وإذا ما أعطينا أمثلة عليها، نجد أن الميثولوجيا لدى السومريين، والفلسفة لدى الإغريق، والعلم في أوروبا الحديثة، والدين في عالم العصور الوسطى؛ تقوم كلها بنشاطاتها وفاعلياتها كأداة أيديولوجية أساساً. أما تطبيقاتها العملية (العبادة والطقوس والشعائر) فهي فاعلية ثانوية. المحدِّد هنا هو كونها قوالب الذهنية النواة.

يتجسد الهدف الأولي للأيديولوجيات الرسمية في كردستان في تكوين سلسلة من الفرضيات القائلة بأنه لا وجود لظاهرة تسمى بالكرد، وإنْ وُجِدَت فهي غير مهمة، وإنْ كانت مهمة فكشف النقاب عنها أمر بالغ الخطورة. ويُجلَب الماء من ألف بحر لإثبات ذلك. وتُصَبُّ بعضها كالماء الجامد فوق الرؤوس، وبعضها الآخر كالماء المغلي. يُصَرُّ على هذه الفاعلية إلى أن يُعتَرَف بالسلطة الدارجة، ويُصادَق عليها وعلى كل شيء معني بها. أما الذريعة الأساسية المتوارية وراء هذه الفاعلية، فتتمثل في القول بأن كردستان قد فُتِحَت منذ أمد غابر، وأن الكرد – بالتالي – قد استسلموا معها. الغريب في الأمر أن الكرد غير متنبهين أبداً إلى هذه المآرب والمزاعم. بمقدور صاحب السلطة التركية أو العربية أو الفارسية أن يسرد بأفضل الأشكال كيفية فتحه للكرد وكردستان القابعة في ظل بنية سلطته، وعبر أية حروب شهيرة تم فتحها. بل وإنه يتلذذ ويغتبط لشرح حكايات البطولة لتلك الفتوحات أيضاً. أما الكردي (إنْ كان له وجه وفؤاد قادر على الزعم بأنه موجود)، فيصغي إلى هذه الحكايات بكل حماقة وبلاهة. ونادراً ما يُبدي مهارته في محاكمةِ ما (أو مَن) تم فتحه. إن حالته الراهنة هي النقطة التي تنتهي فيها الذهنية الاجتماعية والأخلاق المرتبطة بها.

تمتد الأيديولوجيات الرسمية حتى راهننا منذ قرون مديدة، متقمصة أشكالاً مختلفة، وكأنها حلقات سلسلة متتالية لا تعرف الانقطاع. على سبيل المثال؛ فالعرب أصلاً يطرحون زعماً بأنهم يمتلكون في حوزتهم أهم وثيقة إلهية، باعتبارهم فاتحو الإسلام. “لقد فتحناها، إذاً فهي لنا”. وهل ثمة حق أعظم من الفتح باسم الإله؟! هذا هو الزعم الذي لا يزال يُطرَح بشدة وإصرار. أما الفُرْس، فيخطون خطوة أخرى إلى الأمام، ويَبدون واثقين من أنفسهم بأنهم – ومنذ أمد بعيد – أصبحوا أصحاب كل شيء عائد للكرد الذين هم أقاربهم من الدرجة الثانية، وأن الكرد قد صادقوا على ذلك منذ زمن غابر. وهم – الفرس – لا يجدون نفعاً من سرد الذرائع الطويلة لذلك، وكأنهم يتساءلون “هل ثمة زعم اسمه الكردياتية مقابل أيديولوجياتهم وسلطات دولتهم الكبرى؟!”. وبالنسبة للأتراك فيطرحون نفس سيناريوهات الفتح المزعومة. حيث يزعمون بفتحهم لكردستان، كجزء من بلاد الأناضول، قبل ألف عام من الآن؛ دون أن يقوموا بمحاكمة ذلك أبداً. إنهم يتحدثون عن زعم معصوم عن الخطأ، وكأن الفتح يوَلِّد الحق المطلق!.

في الحقيقة، قد يكون فتح بلاد البلقان أو إسطنبول أمراً ذا معنى. أما البرهنة على أن “ديار بكر” لم تُفتَح إطلاقاً، وأنه تم التحرك فيها بسياسات مشتركة منذ عهد السلاجقة، وأن مسار التاريخ الأصلي هو هكذا؛ فتُعَدُّ اعتداءً على حق الفتح أو أيديولوجيته. بيد أننا أوضحنا كيف أن الكرد القاطنين في أراضيهم منذ ما يناهز الخمسة عشر ألف عاماً، وأسسوا ثقافتهم فيها، وصاروا أصحاب وطن (Welat) عليها؛ إنما هم أصحاب حق دارج يضاهي حق الفتح بآلاف المرات. كيف يصبح وطن الكرد بضربة واحدة مُلكاً للعربي أو التركي أو العجمي؛ بينما هو – على الأقل – مصدر الحق الأولي للكردي، الذي زرع أراضيه صيفاً شتاءً، وحوَّلها إلى حقول خضراء يانعة، وأسس القرى والمدن عليها، واجترّ آلامها وهمومها آلافاً من السنين، وقاوَم لأجلها، ومات على ثراها، وسَكَب نور عينيه على كل شبر فيها، وعاش فوق أراضيها، وكوَّن وجوده الاجتماعي عليها بكل أشكال الكدح، تماماً كمن يقوم بتطريز نسيج ما؟ بمقدور الكردي الزعم أمام هؤلاء قائلاً: لربما فتحتَ أنتَ هذه الأراضي عن باطل لمرة واحدة، ولكنني أفتحها كل يوم بإمدادي إياها بمئات الأجيال.

أما الزعم الآخر للأيديولوجيات الرسمية، فيتعلق بإمكانية أن يكون مصطلحا الكرد وكردستان ذريعة للانفصالية التي لا جدوى منها، والخطيرة، بل وحتى المرتبطة بالإرهاب. بيد أنه أُثبِتَ تاريخياً أن مصطلحَي الكرد وكردستان كانا موجودَين قبل آلاف الأعوام، وقبل أن يتواجد العرب والفرس والترك في الميدان. علاوة على أنه تبين بأنهما ليسا بلا جدوى، بل يحتلان مرتبة الصدارة في المصادر الأولية للحضارة. أما الزعم بأنهما يتسببان في الانفصالية والعنف، فيبرهن على العكس. إن الموقف الأشبه بالسارق الذي طرد صاحب بستان الكرم، هو موقف انفصالي. ولماذا يَقسِم الكرد أراضيهم التي خلقوها وبنوها بكدحهم وعرق جبينهم لآلاف السنين؟ هذا ولطالما هم الذين يتلقون الضربات، ويتعرضون للغزو والاحتلال والعنف الأصلي الخارجي؛ فلِمَ سيلجؤون إلى العنف؟ ولِمَ سيتحول الدفاع المشروع الاضطراري إلى عنف انفصالي؟

لا تنطق الأيديولوجيات الرسمية بالنقاط التي قمنا بصياغتها، بشكل علني. إلا إن مضمونها يفيد بهذا الشيء. وما يتبقى من الأمر يُصاغ على شكل مقولات ومُثُل شعبية من قبيل “هيا يا محمد الكردي، المحتال والقبيح، إلى الحراسة” و”ما الذي يفهمه الكردي من العيد؟ إنه يشرب اللبن الرائب ذليلاً خانعاً”. تَعتَبِر الأيديولوجيات الرسمية تلقين مزاعمها الأساسية تلك في المدارس الرسمية كعِلم طويل الأمد معني بالتاريخ والاقتصاد والسياسة والأدب والقانون والفنون والعسكرتارية، بل ومعني حتى بالدين والأخلاق؛ تَعتَبِر ذلك أحد أهم الوظائف الأولية المكلفة بها. وهكذا تؤمِن بتحقيقها مشروعيتها الاجتماعية. تسعى الأيديولوجيا هنا إلى أن تقوم بفاعلية أخطر من المجازر ذاتها. إن الانتفاع من العمل على حَطِّ شأن مجتمع أو شعب ما، ومن إقحامه في وضع مغلوب ومهزوم، وبالتالي دحضه وإنكاره؛ لا يُعتبَر مجرد انتهاكٍ لحقٍ ما، بل يعني إنكار ذاك الحق كلياً، وبما يخالف وينافي – من حيث المضمون – كافة الحقائق الدينية والفلسفية والعلمية. وما من مشكلة اجتماعية أخطر من هذه قطعياً. فالناكر للشيء، بمقدوره أن يقضي عليه أيضاً.

إن هذه الكتابة ليست مكلفة بالنقاش المطوَّل والمسهِب في كيفية تحويل تلك المراحل إلى مآرب أولية في الدول العربية والفارسية والتركية. نحن نقوم فقط بصياغة تعريف للفاعلية الأيديولوجية. بالإضافة إلى أنه ثمة مشكلة معنية بالوسائل الأيديولوجية. حيث يُسعى لتكرار هذه المزاعم الأيديولوجية وإضفاء المشروعية عليها ألف مرة في اليوم، وكأنها حقيقة واقعة أولية؛ وذلك عبر الإمام المتنقل أولاً، وعبر الدراويش والأسياد، ومن ثم عبر الكتب، وبوصولنا إلى يومنا هذا يتم ذلك عبر المذياع والتلفاز والصحف والمدارس الرسمية والجوامع. أما محاولة طرح أطروحة مناقضة لذلك، فتصبح موضوعاً لعقاب شديد الوطأة، بحيث تباشر قوات الأمن وأجهزة القضاء على الفور بالتحقيق فيها والاستقصاء عنها ومحاكمتها ومعاقبتها حتى بعقوبة الإعدام. وبعد إتْباع حق مجتمعٍ أو شعب ما في التعبير عن ذاته كشرفٍ أساسي له، بكل هذه العراقيل والعثرات، هل يبقى ثمة خير يتأتى من أولئك الناس أو تلك الجماعات، حاكمةً كانت أم محكومة؟

جلي جلاء النهار أن الأيديولوجيات الرسمية تخلق مشاكل حقيقية. حيث تُسخَّر في خدمة إضفاء صبغة المشروعية على جوهر العنف للسلطة، والعمل على بسط نفوذه وإكسابه أحقيته كوظيفة أساسية لها، لخلق وضع ثابت بموجب ذلك. إنها تُشكِّل البراديغما الأساسية للمجتمع – حاكماً كان أم محكوماً – وتعمل على بسطها كوجهة نظر أحادية الجانب ومهيمنة، سعياً منها إلى عرقلة استيعاب الحقيقة، وبالتالي إلى إعاقة بروز السلوكيات الصحيحة والسليمة. وتُفرِغ كل سِلم أو تعاضد اجتماعي محتَمَل من جوهره الحقيقي الواقع. بل، وخلافاً لذاك الاحتمال، تُشكِّل دافعاً حقيقياً لظهور المزاعم المضادة إلى الوسط في كل لحظة، وتُكثِر من دعوتها إلى أجواء مشحونة بالتنازع والعنف. إن الأطروحات غير الواقعية لتلك الأيديولوجيات هي التي تخلق الذرائع لشن الحروب المعرقِلة للسلم الاجتماعي في كل الأوقات، وعلى مر التاريخ. هذا ما يقود بدوره إلى فتح المجال أمام الأيديولوجيات المضادة، وبالتالي أمام ظهور البنى المضادة، والإبقاء على المجتمع في حالة من التوتر والحزازية والاشتباكات المحتدمة.

يمر السلام الحقيقي في الميدان الأيديولوجي من حرية الفكر. لقد تنبه الأوروبيون إلى أهمية حرية الفكر، بعد خوض الحروب الأيديولوجية الكبرى الممتدة طيلة قرون عديدة، فجعلوها من أولويات الحقوق. تمهد حرية التفكير لإبراز نقاط الضعف والأخطاء الكامنة في مضمون السلوكيات الأيديولوجية، لتقود إلى هيمنة السلوكيات الأكثر واقعية. هكذا يتحقق العطاء الفكري. إن رفع الحصار الأيديولوجي المطوِّق للظاهرة الكردية في كردستان، ورفع الحظر عن الوسائل الإعلامية من كتب وصحف وسينما وإذاعة وتلفاز من أجل حرية التعبير؛ ليسا من دواعي الدمقرطة وحقوق الإنسان فحسب. بل يؤدي ذلك دوراً رئيسياً في المساهمة في خلق إمكانيات وفرص استيعاب المجتمع للحقيقة الواقعة، وتَعَرُّفِه على المعلومات العلمية، وبالتالي تَمَكُّنِه من أن يكون مجتمعاً معلوماتياً. إن اكتساب المعلومات الصحيحة هو الدرب الأسلم لحل المشاكل بالنمط السلمي الأكثر واقعية، وبالتالي الأكثر منطقية. وما أَكسَبَ أوروبا القيمةَ الأولية في العالم، هو رؤيتها بأن هذه الحقيقة تليق بمكانة مجتمعاتها.

ما دامت الأيديولوجيات الرسمية الحالية مستمرة في الظاهرة الكردية في كردستان، فإنها تُسبِّب دافعاً حقيقياً لخطر بليغ، بإبقائها الأجواء ملائمة على الدوام لكافة أشكال الاستغلال الخارجي. وما يُعاش في العراق يُشِيد بهذه الحقيقة بأفضل أنماط التعبير. لا يمكن لِمَن يَحمِل حَدْبَة الأيديولوجيات الرسمية على ظهره، أن ينجو من العَرَج والكسح الدائم على درب العصرنة. بالتالي، فالأيديولوجيات الرسمية الدارجة – وعلى عكس ما يُزعَم تماماً – تُشكِّل مصدر مخاطر حقيقية من أجل تكامل الوطن والدولة، وذلك بتأجيجها الدائم لأوضاع حاملة بالعنف والانفصالية بين أحشائها. لهذا السبب بالذات، طالما شهد التاريخ عدداً كبيراً من المجتمعات والدول والأوطان المنخرطة في حروب عمياء همجية، والمتجزئة، والمتكبدة خسائر فادحة.

إذا ما وضعنا نصب أعيننا الشكل الملموس للأيديولوجيا الرسمية المهيمنة على كردستان، سنجد أن النعرات الدينية والقوموية هي السائدة. حيث ينشط الإسلام في أجزاء كردستان الأربعة كأيديولوجية دولة. ورغم الجدالات العلمانية الدائرة، إلا إنه من المعلوم يقيناً أن الإسلام يلعب دوراً سياسياً مائة بالمائة، وأن العلاقة بين الفرد والله (هي في جوهرها علاقة بين الفرد من جهة، والدولة والسلطة من الجهة الثانية) ليست سوى خداعاً وزيفاً. وبينما تقوم بعض البلدان – كإيران مثلاً – بذلك علانية، تلجأ البلدان الأخرى إلى أساليب مستترة. ففي تركيا ثمة ما يناهز المائة ألف كادراً دينياً. ربما لا وجود لجيش ديني كهذا حتى في إيران ذاتها. ومدارس الإمام الخطيب أقرب إلى الثانويات الرسمية. وبإضافة دورات تعليم القرآن، والمعاهد وكليات الإلهيات (اللاهوت)؛ يظهر أمامنا حوالي نصف مليون كادراً. من المحال تحقيق الدنيوية بصقل التعليم بقناع العلمانية. ومن غير الممكن تحقيق الدنيوية الحقة، إلا بالتحليل السوسيولوجي للفكر الديني، وبتخطيه عبر الآداب. تُشكِّل العلمية والديانوية أسوأ أشكال الاختلاط والتمازج بين هذه البلدان. والانغلاق الموجود في الذهنية هو الذي يؤَمِّن هذا الاختلاط والتشوش، ويأتي في صدارة العراقيل المزروعة على درب التطورات الفلسفية المحقِّقة للفكر الخلاق والبراديغما الأدبية النبيلة. في الحقيقة، لم تمعن هذه البلدان في التفكير فيما ستفعله عبر الأيديولوجيا الإسلامية. حيث تنتفع منها كأداة في حسابات السلطة اليومية، وفي التحكم بالمجتمع والمرأة وضبطهما. إلا إنها في الوقت ذاته عاجزة عن الانتباه إلى الخسائر الفادحة المتعرضة لها، بسبب عجزها عن تطوير البراديغما العلمية.

علاوة على ذلك، تُخلَق حالة لا يمكن النفاذ منها، أثناء امتزاج الطرائقية (كذهنية منظَّمة) والتحزب بأمور السياسة بشكل مباشر. فأنْ تكون مؤمناً أو لا تكون، لا يشكِّل أية قيمة بمفرده. فمثلما أنه بمقدور رجل الدين الحسن أن يلعب دوراً مهماً في المجتمع، فباستطاعة الرجل العلماني غير المؤمن إطلاقاً، أن يؤدي الدور عينه. لكن التحليل السوسيولوجي شرط أولي من أجل ذلك. حيث من المحال استصغار التقاليد الدينية أو ازدراؤها. بل من الضروري – وبكل تأكيد – استيعاب المعاني التي تمثلها. وفي هذه الحالة تكون ذات قيمة، كتعريفٍ هام لهوية المجتمع. أما إذا لم يُعمَل بذلك، بل وأُسقِطَت إلى مستوى استظهاري حفظي مؤلَّف من طقوس وشعائر وعبادات وأدعية فحسب؛ فلن تؤدي دوراً أبعد من تخدير الأذهان والعواطف، وشل تأثيرها، وتأمين انغلاقها أمام العلم والمعرفة. لهذا السبب بالذات يتم الالتفاف حول الدين في الأزمان التي تتصلب فيها الإدارة الكيفية (الاستبدادية) وتقسو. حيث يُسعى عبرها إلى تخدير وعي المجتمع وإرادته. ولطالما استُخدِم الدين بموجب ذلك – وبكثافة – في العراق وسوريا وتركيا، بقدر ما هي عليه الحال في إيران.

ثمة مضمون سوسيولوجي في سياسة أتاتورك الدينية. وتفضيله المنحاز للذهنية العلمية أمر واضح. هذا ولا يُنكَر أنه خاض صراعاً ذهنياً أيضاً. إلا إن العجز عن القيام بالتفسير العميق للتقاليد الدينية، وعن تلقيح الدين بالفلسفة، بل والتحكم بالأخيرة عبر التشكيلات والأجهزة الدينية؛ لم يُجْدِ نفعاً كثيراً من حيث النتيجة على المدى الطويل. لقد بدا العجز عن تحقيق علمانية من الطراز الأوروبي.

أما في المرحلة اللاحقة لأتاتورك، فتَمَّت تعرية وإفناء مكتسبات الجمهورية في هذا الاتجاه بنسبة ملحوظة، مع فرض التردي والانحطاط على البراديغما، وتطلعها إلى المآرب السياسية. لقد عُمِل بتسييس الدين بكل علانية في عهد حُكم كلٍ من الحزبين DP وAP.  وتم تقميصه رداءً أيديولوجياً رسمياً في انقلاب 12 آذار وانقلاب 12 أيلول، تحت ستار التركيبة التركية – الإسلامية الجديدة. هكذا دخلت تركيا بُعَيد عام 1980 درباً من تقليد إيران ومحاكاتها. ومع استلام حزب AKP مقاليد الحكم مؤخراً، باتت الأيديولوجية الإسلامية سلطة رسمية.

لقد غدا الإسلام السياسي سلطة، حصيلة السياسة الدينية التي مارستها الدولة منذ زمن طويل، وليس – كما يُظَن – بمجرد انتقاء وتفضيل. بل وتحقق هذا التحول عبر المدرسة السُّنّية النقشبندية، التي هي التفسير المذهبي الأكثر تزمُّتاً في الإسلام. أما التناقض مع إسلام إيران، فيكمن في الشكل، لا الجوهر. فالمذهب الشيعي الذي يغلب عليه الجانب الاجتماعي، في خلاف وتصادم مع التفسير السُّنّي النقشبندي الذي يطغى عليه الجانب الدولتي المتزمِّت.

تزعم أمريكا في اليوم الراهن برغبتها في الاستمرار في حركة الإسلام التي سيَّرتها تجاه الشيوعية عبر نظرية “الجيل الأخضر”، وذلك بنمط الإسلام المعتدل تجاه الإسلام الراديكالي. وهي تجرب ذلك على تركيا، سعياً منها إلى تطبيقها على مستوى المنطقة والعالم بزعامة “فتح الله غولان” بشكل خاص، بتسييرها لمشروع إصلاح إسلامي شامل. إن الدور السياسي والاجتماعي للأيديولوجية الإسلامية سلبي، بسبب منعها المجتمعات من أن تكون شفافة ونقية في نهاية المطاف. إنها – تلك الأيديولوجية – بعيدة عن أن تكون تفسيراً حقيقياً للتقاليد الاجتماعية.

يغلب الشكل السُّنّي النقشبندي على الإسلام السياسي المهيمن على الكرد وكردستان. وللشيوخ وزعماء الطرائق الدينية الكرد النصيبُ الأوفر في تطور النقشبندية ذات الماضي التاريخي الطويل، في منطقة الشرق الأوسط. إنه ضرب من السعي لملء الثغرات الأيديولوجية بالنقشبندية. حيث يلاحَظ انتقال القيادة الأيديولوجية إلى قبضة الشيوخ النقشبنديين بعد عهد انتفاضات الآغاوات. فالنقشبندية بارزة في الطابع الأيديولوجي لعصيان النهري في 1878، وللتمردات المندلعة في القرن العشرين بزعامة بتليس موتكي في 1914، والشيخ سعيد في 1925، والشيخ أحمد البارزاني في 1930، وللحركات البارزة في أعوام 1960 بزعامة كلٍ من البارزاني والطالباني. كما أن النقشبندية بارزة أيضاً في التركيبة التركية – الإسلامية الجديدة البارزة بُعَيد 1980. هذا وقد قامت النقشبندية بحملة مهمة في صفوف حزب ANAP في عهد “تورغوت أوزال Turgut Özal” أيضاً. وقد كانت الطرائق الدينية قبلها في صفوف الحزبين DP وAP.  إلا إنها بنت مؤسساتها بعد انقلاب 12 أيلول – وبحماية الدولة لها – في كل الميادين، فأسست الأحزاب والدُّور والمدارس والجمعيات والاتحادات والإعلام، واستأجرت الأراضي واستملكتها. من المؤكد أنه تم القيام بثورة مضادة أيديولوجية تجاه أيديولوجية الجمهورية الكمالية. ولكن النمط سُيِّر بشكل صامت وخفي، لا بشكل علني. لا تزال هذه الثورة المضادة موضوعاً يلفه الغموض ويكتنفه الظلام، حيث لم يُسدَل الستار عن أبعادها الرسمية الداخلية، إلى جانب أواصرها مع أمريكا.

إن “الحاج فتح الله” هو أحد العناصر الأولية المهمة. إذ يُقال بأنه يقوم بحضرنة “سعيد النورسي” (وهو الزعيم النقشبندي للمرحلة الانتقالية، والاسم الأبرز منذ تأسيس الجمهورية وحتى 1960). بالإمكان القول أنه زعيم لضرب من ضروب الإنجيلية التبشيرية للعالَم الإسلامي المتحالف مع أمريكا. حيث يشاهَد التوجه نحو الصعود مع حزب AKP بزعامة “رجب طيب أردوغان” كموجة جديدة بارزة حصيلة عجز كل من “الحاج أربقان” و”أجاويد” عن التأقلم والامتثال التام لأمريكا والبيروقراطية. بالمقدور القول أن النقشبندية هنا أحرزت انتصاراً سياسياً مظفراً. ودور الزعيم النقشبندي الكردي أيضاً في غاية الأهمية في حصول ذلك. فمثلما شوهد كثيراً في انتخابات عام 2002 وعام 2004، فقد احتل العديد من الزعماء النقشبنديين البارزين أماكنهم المرموقة في أجهزة الدولة والسياسة الرسمية، والذين يتبنون ميراث “الشيخ سعيد” و”سعيد النورسي”؛ من قبيل “عبد المَلك فرات” (رئيس حزب الحقوق والحريات) و”غونايت زابسو” (رئيس الهيئة الاستشارية لدى رجب طيب أردوغان) و”حسين جليك” (وزير التعليم القومي) و”زكي أزغازان”. وما الطالباني رئيس YNK، والبارزاني رئيس KDP، سوى شيخان في ذات الطريقة النقشبندية، ويؤازران تقاليد النقشبندية في تركيا. وقد قاما بالعديد من التمشيطات المشتركة مع الدولة التركية منذ عهد أوزال، تجاه الحركة الكردية الكادحة والديمقراطية.

لا يمكن الجزم بتنظيمات النقشبندية الأخرى المؤسَّسة في الشرق الأوسط بدعم من أوروبا وأمريكا، وذلك لنشاطها نصف العلني. لكن، من الضروري العلم بأنها ذات تأثير يماثل تأثير الشيعة، بأقل تقدير. ولا جدال في أن علاقاتهم المقامة مع أمريكا ذات أبعاد استراتيجية، وأنهم يتميزون بدور أيديولوجي وسياسي مهم في مشروع الشرق الأوسط الكبير. وما الإسلام المعتدل في أصله سوى إسلام نقشبندي. ومع مرور كل يوم يُسدَل الستار عن تحالفهم مع أمريكا في تحركاتهم ضمن منهاج محدَّد يصل حتى حدود آسيا الوسطى. حيث يتم البروز عبر الإسلام المعتدل المستحدَث بنمط بديل لكل من قوموية العرب البعثيين القدماء، وقوموية CHP الكمالية، ومذهبية المملكة العربية السعودية الوهّابية، والإخوان المسلمين في مصر، وحزب الله في إيران.

تُعَدّ القوموية البورجوازية ثاني أكبر شكل للأيديولوجية الرسمية. إذ من المعلوم أن هذه الاتجاهات، التي كانت الأيديولوجيات المفضَّلة في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ نشطت بعناية فائقة كأيديولوجية الدولة، في سبيل قيام البورجوازية بإضعاف طاقات الطبقة العمالية في الداخل، والتيارات الاشتراكية المشيدة في الخارج. وهذه محصلة طبيعية لمفهوم الدولة القومية، وضرب من ضروب الدين العصري. وهي الشكل الأخير الذي وصلته الإثنية (القوموية العشائرية). وقد لعبت دور الأيديولوجيا الرسمية الأكثر قدرة وتأثيراً في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وفي البلدان غير الأوروبية في القرن العشرين. كما أدت دوراً مؤثراً في امتصاص التناقضات الاجتماعية وإخمادها، ونقل البورجوازية الحديثة العهد إلى طوابق الدولة، وجعلها صاحبة سوق مشتركة، وترتيب الاعتداءات على أراضي الأقوام والإثنيات الأخرى.

لقد كانت القوموية التركية المبتدئة مع “نامق كمال” كشكل بدائي ظهر في أعوام 1840 مع حركة الإصلاح الاجتماعي في تركيا، متمحورة حول إعاقة تشتت الإمبراطورية وتَبَعثُرها. لكنها كانت مشروعة من حيث الأسلوب. وفي المرحلة اللاحقة لعام 1876، استمرت في العمل أساساً بمساعيها في عرقلة التبعثر، وذلك باتخاذها الطابع الأكثر راديكالية تجاه سلطنة “عبد الحميد”، وبقيام قوموية “جان تورك” بإعلان نظام الحُكم الدستوري مع تأسيس “جمعية الاتحاد والترقي” من جهة، وببسط نفوذها التام على السلطة السياسية من الجهة الثانية. أما السياسة الألمانية في الانفتاح صوب الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فجلبت معها النعرة العِرقية أيضاً في القوموية التركية. المحصلة كانت تصفية الأرمن والروم والآشوريين، وقسمياً الكرد.

التفَّت قوموية عهد الجمهورية حول المجتمع كالدرع المطوِّق الحصين، بمفهومها في الدولة القومية المتصلبة. وكادت تُحَوِّل التوجه العِرقي إلى دين بحد ذاته؛ بتجذيرها لمفهوم اللغة الواحدة، الوطن الواحد، الدولة الواحدة. وكأنها خلقت قوة مذهبية جديدة، عوضاً عن الشكل الشرائعي الكلاسيكي المُسقَط إلى درجة ثانوية. وقد كان نظام السلالات المتبقي من القرون الماضية، وواقع الاحتلال والعزلة والتجريد المعاش، عوامل مؤثرة في ذلك. أما الجمهورية المحتلة مكانها محل السلالاتية، فكانت تهدف أساساً إلى تأمين الوحدة بتعزيز التأثير القوموي للثورة الفرنسية أكثر فأكثر. وفيما يخص مفهوم الأمة الخاوية من الطبقات والامتيازات، فكان مفتقراً لوسائل التطبيق على أرض الواقع، رغم كونه هدفاً سامياً. وكان يحمل بين طياته تهلكة الوقوع في تعصب ديني أيديولوجي مع انعزاله عن حوله. تحمَّلَت القوموية مسؤولية مواراة نقاط ضعف وتَدَرُّنِ كل السلطات. وسُعِي إلى إقناع المجتمع بكل شيء مراد، تحت شعار “التركياتية السامية” المُبالَغ فيها.

رغم تميز قوموية مصطفى كمال بكونها ليست بعيدة عن العلم، ولا منزلقة نحو المغامرة، بل يغلب عليها الجانب الوطني؛ إلا إنها سرعان ما فقدت جوهرها هذا، لتتحول إلى أداة أساسية بيد السلطة السياسية لتخدير القاعدة الجماهيرية الأولية. وفيما بعد عام 1980، تم مزج الإسلام بالمفهوم السُّنّي النقشبندي في محاولة لطرحه على شكل تركيبة تركية – إسلامية جديدة. كان لتأهيل وترويض القوموية التركية المفرطة (مثالية MHP) في الداخل، بل والأهم من ذلك إعاقة الحركة الكردية المحقِّقة لحملة مهمة من تعاظمها أكثر؛ الدور البارز في ذلك. سُعِي لعرقلة انضمام الشريحة الكردية العليا ذات التقاليد النقشبندية إلى حركة المقاومة الكردية، عبر إتْباعها بالنظام القائم. أما على الصعيد الخارجي، فسُعِي لتطوير جبهة مضادة لـPKK، عبر مؤازرة ودعم نقشبندية كل من الطالباني والبارزاني، باتباع الأسلوب عينه. حصل ذلك مقابل تقديم الجمهورية تنازلات بنسبة مهمة من أيديولوجيتها الثورية. وبرزت المحصلة باستلام حزب AKP مقاليد الحكم في تركيا، وظهور الدولة الفيدرالية الكردية في العراق.

برزت بضعة اتجاهات أيديولوجية أقرب إلى أن تكون أيديولوجيا رسمية، وإنْ لم تكن كذلك بشكل تام. لم تستطع الليبرالية التأثير كثيراً على الدولة كاتجاه بورجوازي. تعاني التجارب الديمقراطية الاجتماعية أيضاً العاقبةَ نفسها. أما الأيديولوجيات اليسارية، فكانت مفتقرة للآفاق التي تخوِّلها لتخطّي الدولتية، رغم ادعائها بأنها مناهِضة للسلطة. أفصحت كل هذه الأيديولوجيات عن سماتها الحقيقية بإبرازها للدور الذي قامت به في علاقاتها مع السلطة.

يجب بالضرورة القيام بتحليل فائق الجودة لكيفية مواراة السلطة للواقع الاجتماعي المبني بموجب العنف، في الأثناء التي تقوم فيها الأيديولوجيات (البنى الذهنية المشتركة للمجتمعات) بمواراة السلطة. إذ من العسير إسدال الستار عن أي ظاهرة أو مشكلة اجتماعية، ما لم يُحلَّل ثالوث “الأيديولوجيا – السلطة – العنف”. ذلك أنه ليس من السهولة بمكان تحقيق العنف والاستعمار الاجتماعي، ما لم يُحاصَر ويُطوَّق ويُحصَّن بآليات السلطة والآليات الأيديولوجية، ليُسيَّر بها. تتمثل الوظيفة السياسية الأولية في تطوير التكوينة الأيديولوجية ومؤسسات السلطة (أشكال الدولة وأنظمتها) بعناية فائقة (يحصل هذا منذ أيام دولة الرهبان السومرية)؛ وذلك بغرض القدرة على بسط نفوذ العنف والاستعمار. هل الأيديولوجيا هي التي تثمر السياسة، أم أن السياسة تثمر الأيديولوجيا؟ ترتبط هذه الثنائية والمفارقة بالعلاقات الاجتماعية الأكثر غوراً في أعماقها. إن ممارسة العنف والاستغلال بسهولة في المجتمع، ليست كما تبدو في الظاهر. حيث تبدأ الأيديولوجيا والسياسة بالفاعلية في مثل هذه اللحظات. تتمثل الفاعلية الحقيقية للأيديولوجيا والسياسة في تسيير كافة العلاقات والمعاملات المادية والمعنوية، التي يستحيل تسييرها في المجتمع بطواعية وديمقراطية، والتي قد تنمُّ – خلافاً لذلك – عن ظهور ردود فعل حادة.

من المهم بمكان وضع هذه الفاعليات نصب العين باستمرار في الأشكال الرسمية الدارجة للأيديولوجيا والسياسة في كردستان. وفي حالة العكس، فتحليل الظاهرة الكردية والبحث عن الحل للقضية الكردية – وإنْ لم يكن أمراً عصيباً – سيقود إلى أشكال داكنة وبالغة التعقيد.

لقد سعينا لطرح سرد وجيز لتطور العنف والسلطة عبر مخططنا التاريخي هذا. ولدى تحليلنا السلطات الحالية المحدَّدة عبر هذه المعطيات، وجدنا أن كافة النظم الشائعة تقوم بتعريف وجودها وصونه والدفاع عنه، باعتمادها – فقط وفقط – على  (بُدّية) حق الفتح (تَعَبُّد الفتح، وتعليل كل شيء عبره، والاعتقاد به). أما صُلْب الموضوع، فهو أن بعض الأسلاف استولوا في وقت من الأوقات على الظاهرتَين المسماتَين بالكرد وكردستان، عبر العنف والحروب. ومنذ تلك الأيام يتم تناقل ذلك من الأسلاف عبر الأجيال، إلى أن يصل ذاك الحق إليهم في يومنا هذا. قد يتقبل البعضُ الاعتقادَ القائل بأن الحرب والعنف هما المنبع الوحيد لكافة الحقوق. أي أن حق الفتح حق مقدس، وتنبثق منه كافة الحقوق الأخرى. لكن ذلك يبرهن من الناحية السوسيولوجية أنه – حق الفتح – المنبع المثالي – فقط وفقط – للعنف المحض، وللحرب والسلطة.

قد يكون ذلك رأياً واقعياً. لكنه غير كافٍ للإيضاح بأنه يشكل المنبع المثالي لكافة الحقوق. وقد خاضت أوروبا – ارتباطاً بذلك – حروباً ضارية فظيعة. وفي نهاية المآل، كانت النتيجة التي توصلت إليها هي أن الدرب الأصح تتمثل في أن تكون الديمقراطية وحقوق الإنسان الأولية منبعاً للمشروعية. هكذا تبتعد أوروبا مع مرور الأيام عن حقوق الفتح، وتعمل على تطوير مساحة الانتفاع من حقوق الإنسان والديمقراطية، وتؤمن بأن التوجه الأثمن يكمن في تأمين الحقوق الشخصية والعامة بناءً على هذه الخلفية؛ وتقوم بتحويلها إلى أساسٍ ركنٍ لكافة القوانين والدساتير.

إذا ما تركنا عموم الشرق الأوسط جانباً، ونظرنا إلى سلطات الدول الراسخة في كردستان؛ سنجدها تزعم بأنها الفاتحة المطلقة لهذه الأراضي منذ أيام “سارغون” (بالكاد). وأنه من المحال النظر بطرف العنف حتى إلى حصاة صغيرة، دون إذن منها. هكذا تشير ممارسات السلطة في كردستان، وبأشكال ضاربة للبصر، إلى استحالة صياغة تعريف للسلطة المعتمدة على العنف، بشكل أسطع من ذلك. إذ لا يستطيع الكردي ممارسة التعليم بلغته الأم، ولا استخدام تكنولوجيات التواصل الحديثة أو الانتفاع منها، ولا الإعراب عن عزمه وقراره السياسي، ولا القيام بتسويات اقتصادية، ولا تطوير العلاقات السياسية الداخلية أو الخارجية، ولا بناء المؤسسات المللية أو الديمقراطية. تبرهن هذه الوقائع على أن العنف يحدِّد حق الفتح والسلطة (بأي وسيلة كانت)، وأن السلطة بدورها تحدِّد كافة المؤسسات العامة والاجتماعية والاقتصادية والتثقيفية على الصعيد العام. وحتى إنْ لم تقبل العدالة بذلك، فالبنية الذهنية ومؤسسات السلطة لا يساورها الشك مطلقاً في أن علاقات القوة هي المحدِّد الفصل.

إذا ما أسقطنا ذلك على شكل ملموس؛ فسلطات الدولة في كردستان تقبل بأن إضفاءها الشكل الذي تشاؤه (بما في ذلك ممارسة القتل) على هذه الأراضي وشعبها، دون إبداء أية إرادة مناهِضة؛ هو واجب إلهي ووطني. فما بالك بأن يساورها الشك في أن ذلك من حقها! وهي لوحدها صاحبة القرار الحسم في تحديد ما ستستعمره وكيف، وتحديد ما ستعمله لِمَن وكيف، وكم ستجمع من الضرائب والجنود، ومَن ستجعل منه صاحب عمل وقوة، وما ستحظره وكيف، ومَن ستتهمه وكيف. كذلك هي حال المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والعلم والفن. فالإرادة الرسمية هي وحدها التي تحدِّد كل ذلك.

لا تُكِنُّ طبقات السلطات التركية والعربية والفارسية أي احترام أو تقدير لمصطلحَي الكرد وكردستان. وهي ليست علنية تجاههما، حتى على الصعيد النظري. بل – وخلافاً لذلك – فهي تَعتَبِر تحويل هذين المصطلحَين إلى “علم جريمة” أحد أهم الأعمال الجدية للدولة. أما القيام بذلك تحت ذريعة السِّرِّية العيا والكتمان التام، فتَعتَبِره مؤشراً لمدى إيلائها الأهمية الفائقة للأمن القومي. ولا يخطر ببالها قطعياً التفكير في مفهومٍ للأمن عبر الاعتراف بالكرد كمجتمع، أو اعتباره كأساس (ذات – جوهر) فاعل في بعض الحقوق.

أما قوات الجيش، فتتمثل مهامها في صياغة المخططات والمشاريع الدقيقة والمفصَّلة لإنكار ظاهرتَي الكرد وكردستان ومشاكلهما بأدق التفاصيل، ولتخريب وإفساد مضامين الانبعاث، وسحق الانتفاضات المحتملة. أما تطبيق ذلك على أرض الواقع، والقيام بناءً عليه بمراقبة المؤسسات الأخرى؛ فهو من وظائفها الأصلية الحتمية.

وفيما يخص الحكومة والبرلمان والبيروقراطية، فهي تسعى لإكمال ما تركه العسكري لها من أعمال من الدرجة الثانية، عبر سن القوانين وإصدار القرارات والتعليمات. إذ لا تتوانى قط عن مضاعفة حِدّة المشكلة. ولا تتذكر أنه ثمة حيز للحل في السياسة، إلا بعد تهميشها للقضية الكردية. ولا يساورها أدنى شك في أن العنف هو الأسلوب الوحيد، والأول والأخير، الواجب سلوكه في القضية الكردية (سحق رأس الأفعى وهي صغيرة). وهي واثقة تماماً بأن خللاً حقيقياً سيصيب سلطاتها في حالة العكس. في الحقيقة، لقد باتت السياسة التقليدية ردة فعل لا إرادية بالنسبة إليها. حيث تُبدي ردود فعلها تلقائياً، تماماً كمُحِبّي كرة القدم لدى متابعتهم إياها.

تلعب الأحزاب السياسية وما شابهها من مؤسسات شبه سياسية، دورها كجناح دعائي لهذه الآليات إزاء الشعب. وتَعتَبِر أن تَقَبُّل مطاليب الشعب كسياسة، وتنظيمها بموجب ذلك؛ هو من الأعمال الزائدة وغير الضرورية، ولا يخطر ذلك على بالها إلا بين الحين والآخر. فالحزب الأفضل هو ذاك الذي يمثل الدولة بأحسن الأحوال. حتى الأحزاب ذاتها لا يخطر ببالها أن الحزب مؤسسة حاملة لإرادة المجتمع، لا الدولة. وبينما تعتز بأنْ تكون أحزاب الدولة كشرفٍ لها، فإنها تجد في أنْ تكون أحزاباً اجتماعية أمراً مُكبِّلاً لها بالأصفاد. وبهذه المزايا لا تتنبه الأحزاب إلى أنها غدت مكاتب دعائية للدولة. وبينما تعتقد بأن ذلك التزام منها بالوطن والدولة، فهي تَعتَبِر غض النظر عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتعاظمة كالسيل الجارف، سياسة أساسية؛ وكأنها مشاكل طبيعية لا تعنيها بتاتاً.

حتى مؤسسات المجتمع المدني، التي يجب تعريفها بأنها حَدٌّ من إطار سلطة الدولة؛ تأخذ الدولة أساساً لها في كل زمان. وتستمر في إدراج مطاليب الفرد والمجتمع في المرتبة الثانية. إننا نلاحظ هنا مدى متانة مفهوم الدولة المقدسة ودولة الإله التقليدية حتى الآن.

يأخذ الاقتصاد أيضاً نصيبه من هذا النمط من ممارسة السلطة. فالاقتصاد هنا هو ساحة نشاط يتوجب تسويتها بموجب منافع السلطة كلياً. السلطة هي التي تحدِّد الاقتصاد، لا هو. وهل تُؤخَذ قوانين الاقتصاد على محمل الجد بجانب عنفها هي؟ جلي بما لا شائبة فيه أنه، وبينما تكون البطالة ثمرة بنيوية لهذا النظام القائم؛ فالانتفاع من ذلك باسم السلطة يُعَد من دواعي السياسة الأساسية. ويُحفَر في العقول خط عريض وغليظ من القناعة التي تفيد بأنه، كلما ارتبط العاطل عن العمل والجائع بسلطة الدولة وحزبها، كلما لقي التقدير والاحترام. ويطبِّقون على الكردي ممارسات اقتصادية مجحفة، بحيث يحدِّدون له أن السبيل الوحيد لتلبية احتياجاته الضرورية، يمر فقط من الارتباط بسلطات الدولة.

هُدِرَت التريليونات في انتخابات البلدية الأخيرة في تركيا، من أجل كل مقاطعة في الأماكن التي كان محتملاً أن ينجح فيها الديمقراطيون الكرد الوطنيون. وكأنه لا يكفي اتحاد جميع أحزاب الدولة، ولا التحام كافة البيروقراطيات معها؛ لتُشتَرى بذلك – مرة أخرى – ذمم الكرد والحشود الغفيرة المقحَمة في أوضاع تاريخية عصيبة، وتؤَمَّن أيضاً مسائل الأمن التام للنظام (حسب المزاعم). مرة ثانية افتُتِحَت المقاطعات الكردية دون إشعار أحد بذلك، وعلى يد حزب AKP بالذات.

يدوِّن التاريخ في صفحاته أن ياووز سليم أيضاً أرسل أكياساً من الذهب الخالص لدى وضع يده على مدينة “بتليس” وتحكُّمه بها. لقد أريدَ تأجيج التاريخ وإحياؤه من جديد، لدى الهتاف في بينغول بالشعار “إدريس البتليسي – الكردي العميل للعثمانيين – هنا، فأين هو ياووز؟”. في حين أنه ما من شيء تَغَيَّر في الجبهة الشرقية! فممارسات البلدان الأخرى أصبحت أكثر فظاظة. أما في تركيا، فعلى الأقل تعمل آلية سعر السوق بنشاط، ولو بمحدودية كبرى.

كذلك فثلاثي “الفن والرياضة والجنس” المخدِّر، جزء لا يتجزأ من آلية السلطة العامة تلك. إذ يقوم هذا الثلاثي بإفراغ مضامين ما بقي في الفرد من سمات، لتحويله إلى حثالة لا جدوى منها – بكل معنى الكلمة – ورميه جانباً من بعدها. بشكل عام، كانت هذه الأساليب المتبعة في كافة المشاكل الاجتماعية والقومية؛ سياسات مفضَّلة في غضون القرن العشرين، مما مهدت في المحصلة إلى سيادة عالم مشحون بالفاشية والحروب والإرهاب. لقد أسفرت أكثر السياسات أمناً عن عالَم أكثر انفلاتاً من الناحية الأمنية. ولدى قول الرئيس الأمريكي “بوش” مؤخراً بأنه “قد أسفرت سياساتنا عن الاستبداد باسم الاستقرار والأمن، وأَعَدَّت الأرضية الخصبة لأجواء الإرهاب. لذا، فالديمقراطية هي سبيل الخلاص من ذلك، وسوف نعمل بها أساساً”؛ إنما كان في الحقيقة يعترف بسياساته المطبقة خلال القرن العشرين. وهكذا يكون قد أنبأ بالشروع بالتعديلات السياسية المهمة.

كانت أمريكا تتوارى وراء السياسات التركية في العصر القريب، فيما بعد الخمسينات من القرن الماضي. حيث فرضت – هي بالذات – الإرهاب الفاشي على أوساط أعوام السبعينات (أعطت الضوء الأخضر للتنظيم المسمى بالكونتر كريلا)، بدعمها للنعرات القوموية تجاه الاتحاد السوفييتي، الذي كان يشكل هدفها الاستراتيجي. لقد تمخضت النعرات الفاشية القوموية التي آزرتها أمريكا في هذه الفترة – بعد أن كان الألمان في وقت من الأوقات يثيرون قوموية “الاتحاد والترقي” التي انتهت بتشتت الإمبراطورية وتفككها – عن الوصول بالجمهورية أيضاً إلى مشارف الانفجار. وأَرغَمَت الكرد على التمرد. وبرهنت مرة أخرى أنها المحدِّدة الفصل للعنف، لدى سحق المعارضات الاجتماعية بأفتك الممارسات السياسية في انقلاب 12 آذار وانقلاب 12 أيلول. وغدت كردستان ساحة للعنف، من أقصاها إلى أقصاها، فيما بعد الثمانينات. وأريدَ سحق الحركة الوطنية الديمقراطية، عبر التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية المنتشرة في الأرجاء، وعبر الانتفاع الكلاسيكي من الخيانة الكردية. طُبِّقَت النظم نفسها في إيران باسم الثورة الإسلامية، وبين العرب عبر القوموية البعثية. وحصلت حوادث من قبيل مجزرة حلبجة. وابتدأ إفراغ الآلاف من القرى، وارتكاب عشرات الآلاف من الجنايات في كردستان، دون انقطاع. لم يُشاهَد أي تغيير، ولو بسيط، في سمات النظام السائد.

يتصدر القانون قائمة المؤسسات المتصرفة بما يناقض جوهر القضاء كلياً. حيث عُمِل على تجريم مئات الآلاف من الأشخاص، ومساءلتهم واتهامهم ومحاكمتهم. وطُبِّق الإعدام بقرار أحادي الجانب، ودون محاكمة، كشكل قانوني أشد شذوذاً. في الحقيقة، أدى القانون ممارسات فاشية محضة، وتَفَعَّل كمؤسسة غير عادلة على الإطلاق في السلطة. فأنْ تكون كردياً، كافٍ لاتهامك، بل ويزيد عن الحد. فكيف أن تحمل هوية الكردي الأبي!. حيث أُعلِن أنّ الكردياتية والكردستانية أمور مخترقة للقانون كلياً.

اتُّبِعَت سياسات عامة في ميادين المجتمع المدني والفن والرياضة والشبقية والإباحية الجنسية، وانتُفِع منها. ولم تنجُ البيوت الخاصة وبيوت الدعارة العامة من تسخيرها في قمع الكرد والمقاومة الكردستانية واضطهادها، كخلايا أساسية في السياسة.

إن شيوعة ممارسات السلطة في كردستان بهذه الدرجة من السلبية والسوء، تُعبِّر عن الهلع من عدم فاعلية سياسة العنف الخفية، وإنْ بحدود. فالنظام كان أُسِّس على خلفية عنف لا حدود له. وكان يُطبَّق دون أي تعريف عصري. الغرض من ذلك كان إبقاء ظاهرتَي الكرد وكردستان خارج مسار التاريخ والمجتمع. ومقابل ذلك، لم تتوانَ الأيديولوجيات الرسمية عن إعلان قوموياتها ونعراتها الدينية بأكثر أشكالها مغالاة.

تتجسد السياسة الأولية للسلطة الرسمية في تركيا حالياً، في إعلان “إرهابية” المقاومة الكردية، وفرض ذلك على العالم أجمع. وطُرِحَت كافة القيم الاستراتيجية والعسكرية – وفي مقدمتها الاقتصاد – في السوق، بغرض القبول بالسياسات التركية تلك؛ بالتعاون مع كافة الدول المعنية، وعلى رأسها أمريكا. لم يبقَ تنازل إلا وقدمته تركيا إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، بغرض إعلان “إرهابية” PKK. ونُقِلَت السياسات المشابهة إلى كل مكان يتواجد فيه مكتب لـPKK. وحسب رأيهم، كانت الحرب الشاملة ستكون على هذا النحو. وعندما تطلَّب الأمر، هُدِّدَت أوروبا والعديد من الدول والبلدان الأخرى. وطُبِّقَت سياسة “امنح الشراب واضرب بالعصا”. وبفرض تهديد شن الحرب على سوريا، أُخرِج “عبد الله أوج آلان” من هناك. وقَطَع اقتفاءُ أثره المتواصل بلا هوادة أشواطاً ملحوظة، انتهت بمرحلة إمرالي.

أدت السياسات الأمريكية، التي سردناها في الفصول السابقة، بشأن العالم ومنطقة الشرق الأوسط، إلى رجّ كافة المؤسسات التحتية والفوقية لسياسات السلطة تلك المفروضة على كردستان. كما أسفرت ظاهرة كردستان الفيدرالية عن إعادة النظر في كل شيء مجدداً. وباشرت كل من إيران وتركيا وسوريا بإبرام اجتماعاتها الثلاثية. حيث شعرت، ولأول مرة، بعجزها عن الاستمرار في أوضاعها السلطوية الراهنة المألوفة. وبينما أُرجِئ التأثير الذي سيتركه هذا التكوين والتطبيق للسلطة على الفرد الكردي والمجتمع الكردي، إلى المراحل اللاحقة؛ كانت الدولة القومية الحاكمة بعيدة كل البعد عن التحلي بالقدرات والكفاءات التي تخولها لاقتراح أي حل إنساني وديمقراطي حقيقي، في ظل ظروف تطويق الأفراد بالسلطة بشكل كلي. هكذا شربوا وهضموا كل ما قدمته لهم الدولة، بكل قناعة ورضا، إلى أن ثملوا.

أما الجماعات المتظاهرة بأنها منظمات المجتمع المدني، أو أنها يسارية؛ فلم تتورع عن الإصغاء إلى “كلام الكبير”، وكأنه مفهوم نابع من نظام السلطة الأبوية؛ وعن إبداء ردود فعلها التلقائية اللازمة. أما ما وجدوه مقابلهم فكان، الأزمات الاقتصادية المُركَّزة، الديون الداخلية والخارجية المتزايدة، البطالة المتفاقمة كالسيل الجارف، التردي والتدهور السياسي، العجز عن الثبات دون الدعم الخارجي، وظهور تركيا وإيران وعراق وسوريا أكثر انفلاتاً أمنياً من أي وقت مضى. ومثلما جرى في كل مرة، عادت الحسابات الخاطئة أدراجَها من بغداد.

بينما نأتي على نهاية الموضوع، من المهم حسم نقطة أخرى. ألا وهي عدم الخلط بين الدولة والسلطة. فالدولة، كما أدركنا من كافة تحليلاتنا، هي مجتمع مختزل، مُتَأتٍّ من أيام المجتمع الهرمي. وهي تعبِّر عن أرقى مستويات الوجود الاجتماعي، وأكثر أشكال المنطق التحليلي تقدماً؛ بحيث تتركز فيها العلاقات المعنية بالمجتمع برمته. وهي المؤسسة المعتمدة على التقاليد والشمولية والرسمية. غالباً ما يتضمن تعريف الدولة بكونها عبارة عن تحكم طبقة ضيقة محدودة، وأداة استعمارية؛ أخطاء ونواقص هامة. إن تعاريف الدولة الإثنية، أو القومية، هي التي تتحلى بقيمة شرطية (ظرفية). إلا أنها بعيدة عن تعريف الماهية.

في حين أن السلطة تفيد بقوى الممارسة العملية المرحلية الموضوعة والمغروسة ضمن هذه التقاليد، والتي يكاد يغلب عليها الجانب التسلطي والاستغلالي الدائم. ما من شك في أنه لا دولة بلا سلطة. إلا أن اعتبار الدولة برمتها بأنها عبارة عن السلطة، هو رأي ضحل وسطحي، ويقود إلى الخلط بين الكثير من الظواهر والعلاقات.

يتميز الفصل بين تقاليد الدولة الموجودة في كردستان، وبين السلطة المطبقة على أرض الواقع؛ بأنه حدثٌ استيعابي مهم. هذا ومن الضروري أيضاً رؤية الفرق بين مناهضة الدولة ومناهضة السلطة. يتعلق الموضوع الذي طالما سعيتُ لإيضاحه والعمل به أساساً في مرافعتي، بهذا الشأن. يتوجب تمرير الدولة من إصلاح حقيقي، باعتبارها وسيلة تُستخدَم من أجل الأمن العام (الذي يوافق المجتمعُ برمته عليه) والمنفعة العامة (وهي مواضيع المصلحة المشتركة التي يُجمِع عليها المجتمع)؛ وبالتالي صون وجودها (بشكل محجَّم، ولكن مقتدر وفعّال) في عصر الحضارة الديمقراطية. مقابل ذلك، فسلطة الدولة، التي قمنا بتعريفها المرحلي، والشاملة لكردستان كلها في دراستنا الموجزة هذه؛ مناقضة تماماً للشكل النهّاب والسلاّب كالإعصار الجارف (على حد التعبير الدارج)، والذي يَعتَبِر جنايات الفاعل المجهول سياسة، ويعترف بالخصائص القانونية والاجتماعية والديمقراطية. سيكون من العصيب خوض صراع مبدئي قانوني واجتماعي وديمقراطي، بدون رؤية الفارق بين كلا التعريفين. نخص بالذكر هنا وجوب الرؤية الحسنة للفارق الموجود بين التيارات الموجودة في الحركات الكردية، والهادفة إلى بناء دولة منفصلة بحد ذاتها من جهة، وبين التيارات العاملة أساساً بالتعاريف التي طرحناها بشأن الدولة، والتي تهدف إلى بناء دولة ديمقراطية واجتماعية وقانونية، وتخوض في سبيل ذلك صراعها، سعياً منها إلى بناء المجتمع الديمقراطي والسياسة الديمقراطية من الجهة الثانية. هذا ومن المهم التحلي بنظرية وممارسة عملية واضحة بموجب ذلك.


Warning: Undefined variable $meta_text in /home/abdullahocalan/public_html/ar/wp-content/themes/xwe/content-single.php on line 53