الأقتصاد

تَجَسَّدَت أكبرُ ضربةٍ لَحِقَت بالحياةِ الاقتصاديةِ في إخراجِ الاقتصادِ من يدِ المرأة، وتسليمه إلى يدِ المسؤولين الذين يتصرفون كالأغواتِ من قَبيلِ المُرابِين والتُّجَّارِ والمستَثمِرين وأصحاب المالِ والسلطةِ والدولة
عبد الله أوجلان
الاقتصاد مصطلح كوني. ويمكن تعريفه بأعم الأشكال بأنه إجراءات البيع والشراء وتبادل السلع، كما في حادثة الأيض (التغيرات الكيماوية) الحاصلة في عالم الأحياء. فالحصول على مادة حية من المادة الجامدة، واستهلاكها وتحويلها ثانية إلى مادة جامدة؛ إنما يشكل مضمون الأنشطة الاقتصادية. جلي بسطوع تام استحالة افتقار المجتمع لهذه الأنشطة في تكونه وديمومة وجوده. لكن الحقيقة الأخرى المتعلقة بهذا الشأن هي أنه لا اقتصاد بلا حيوية (يمكن تعريف هذه الحيوية بالذهنية أو الروح). بالتالي، فوضْعُ الثقل على عنصر واحد فقط لدى تحليل هذه الظاهرة، يفضي إلى نتائج خاطئة. إذن، فالأسلوب الأصح والأسلم هو تحليل الذهنية والاقتصاد بشكل متداخل (المجموعات الاجتماعية البينية، الدولة والعائلة، وبشكل أعم الظواهر السياسية والاجتماعية معاً). أما التحليلات المعنية بالاقتصاد لوحده، أو بالذهنية بشكل منفرد؛ فتؤدي إلى أخطاء تماثل ما لتعريف الفيل بشَعره. وكلمةُ “اقتصاد” يونانيةُ الأصل، وتعني “قانونَ العائلة، قانون المنزل، قواعد ارتزاق وإعاشة المنزل “. و يَعُود الاقتصاد كلفظ إلى عالَمِ الإغريق – الهيلينيين في العصرِ القديم. ومفردة أكو- ناموس تعني قانون المنزل، الأعمال التي تقوم بها المرأة، الأعمال المنزلية، الأعمال العائدة للمرأة. أكوناموس، الاقتصاد، هو عمل المرأة، يستند على الإنتاج، والاقتصادي هو القائم بهذه الأعمال أي أن الاقتصادي هو المرأة. أي أنها تعني قواعدَ ارتزاقِ العائلة ومعيشتِها المادية، وضوابطَها مع الجوار، وأدواتِ ذلك ومستنداتِه الأخرى. فإذا كنا نود تقييمَ الاقتصاد على نحوٍ قَيِّمٍ سوسيولوجياً، سيَكُونُ من الأصحِّ تطويرَ علمِ الاقتصادِ أيضاً كجزءٍ من علمِ المرأة. فالاقتصادُ شكلُ نشاطٍ اجتماعيِّ أدت فيه المرأةُ دوراً أصلياً منذ البداية. والاقتصادُ ذو معانيَ مصيريةٍ بالنسبةِ للمرأة، بِحُكمِ مسؤوليتِها في قضيةِ تنشئةِ الأطفال. كلمة الناموس تأتي من أكو- ناموس. واضحٌ أنّ هذا أيضاً من نشاطاتِ المرأةِ الأساسية. أداءُ المرأةِ دورَها في مركزِ الاقتصادِ أمرٌ مفهوم، لأنها تُنجِبُ الأطفالَ وتُغَذّيهم. فإنْ كانت المرأةُ لا تَفقَهُ شؤونَ الاقتصاد، فمَن عساه يَفقَه! وبالمستطاعِ تعميم هذا المصطلح في المجتمع المديني، لِيُفيِدَ بـ”قواعدِ المعيشة” للجماعاتِ الصغيرة.
تبدأ القضيةُ الاقتصاديةُ أساساً مع تجريدِ المرأةِ من الاقتصاد. لهذا السببِ تَحَوَّلَ الاقتصادُ، الذي يتلاعَبُ عليه الرجالُ المارِقون بالأكثر، إلى كومةٍ من القضايا الإشكاليةِ لدى طردِ المرأةِ منه في تاريخِ المدنيةِ عموماً، وفي الحداثةِ الرأسماليةِ خصيصاً. هذه اللعبةُ التي ليس لها أيةُ علاقةٍ عضويةٍ مع الاقتصاد، بل شُرِعَ بها فقط بهدفِ بسطِ التحكمِ على كافةِ القوى الاقتصادية، وفي مقدمتها المرأة، طمعاً في الربحِ المفرطِ والقوة؛ هذه اللعبةُ قد بلَغَت في نهايةِ المطافِ حداً أفضى إلى تَضَخُّمِ شتى أنواعِ قوى الهرميةِ والسلطةِ والدولةِ كالوَرَمِ على ظهرِ المجتمع، بحيث بات من المستحيلِ تَحَمُّلُها أو الاستمرارُ في لعبِها.
تَجَسَّدَت أكبرُ ضربةٍ لَحِقَت بالحياةِ الاقتصاديةِ في إخراجِ الاقتصادِ من يدِ المرأة، وتسليمه إلى يدِ المسؤولين الذين يتصرفون كالأغواتِ من قَبيلِ المُرابِين والتُّجَّارِ والمستَثمِرين وأصحاب المالِ والسلطةِ والدولة. الاقتصادُ الموضوعُ في يَدِ القوى المضادةِ للاقتصاد يتم تصييرُه هدفاً أولياً للسلطةِ والعسكرتاريةِ بسرعةِ البرق، متحَوِّلاً بذلك إلى عاملٍ رئيسيٍّ في نشوبِ الحروبِ والنزاعاتِ والصِّدَاماتِ والأزماتِ اللامحدودةِ على مرِّ تاريخِ المدنيةِ والحداثةِ برمته. الاقتصادُ في يومنا الراهن قد باتَ ساحةً لألاعيبِ مَن لا علاقةَ لهم بالاقتصاد، يَعُوثُون فيها ويَنهَبون ويَسلبون القيمةَ الاجتماعيةَ بِنَهمٍ لا يعرفُ حدوداً من خلالِ التلاعبِ بِقِطَعٍ وَرَقِيَّةٍ وبأساليبِ أنكى من القمار. أي أنّ المرأةَ طُرِدَت تماماً من مِهنَتِها المقدَّسةِ التي صُيِّرَت ساحةً للبورصاتِ وميادينِ الرِّبا والتلاعُبِ بالأسعار، ومعامِلَ لإنتاجِ آلاتِ الحروب ووسائلِ المواصَلاتِ التي تَجعَلُ البيئةَ لا تُطاقُ والمنتوجاتِ الكماليةِ التي لا علاقةَ لها بحاجاتِ الإنسانِ الأوليةِ ولا نفعَ منها سوى إدرار الربح.
فالموقفُ الأصح هو القول بكَونِ المرأة هي القوة الأساسية، ما دامت تَحمِلُ الجنينَ وتغذيه في بطنها، وتعتني بتنشئته ومأكله بعد مخاضاتِ الولادة الشاقة، إلى أنْ تَجعَلَه في حالٍ يقدر فيها على الوقوفِ على رِجلَيه؛ وما دامت المرأةُ أيضاً هي المِهَنِية في مأكلِ المنزل. إنّ جوابي ردٌّ سوسيولوجي أكثرُ تقديراً للحقيقة، مع أخذِ روابطه البيولوجيةِ بعينِ الاعتبار بكلِّ تأكيد. علماً بأنّ المرأةَ لا تزال القوةَ المحركةَ للعجلات في العديد من ميادينِ الحياة الاقتصادية، وليس فقط داخل المنزل، نظراً لدورها في الثورة الزراعية، وقطفها وتجميعها الثمارَ على مدى ملايين السنين. وقد شَخَّصَ اليونانيون الأصليون، أصحابُ الشرف في إرساءِ أرضيةِ العلوم، هذه الحقيقةَ قبل آلافِ السنين، بإطلاقهم تسميةَ قانون البيت أو قانون المرأة على الاقتصاد.
لقد طُرِدَ المُزارِعون أولاً بعدَ المرأةِ من الساحةِ الاقتصادية، ومِن ثَمَّ طُرِدَ الرُّعاةُ والحِرَفِيّون وصِغارُ التُّجُّارِ المَعنِيّون فعلاً بالاقتصادِ خطوةً بخطوة على يَدِ أجهزةِ احتكاراتِ السلطةِ ورأسِ المال، خالقةً بذلك أجواءً من الغنائمِ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. إننا وجهاً لوجهٍ أمام موضوعٍ يقتضي الإنارةَ أكثر من غيره. فسياقاتُ المدنية، التي تُعَدُّ بأحدِ معانيها نهباً وسلباً لأدواتِ وميادينِ الحياةِ الاقتصادية، كيفَ تَمَكَّنَت من شرعنةِ ذاتِها آنذاك وحتى يومِنا الحالي؟ كيف عُرِضَت قوى تصفيةِ الاقتصادِ على أنها العواملُ الاقتصاديةُ الأساسية؟ لذا، لن نَكونَ على خطأٍ إذ ما قُلنا أنَّ السومريين كانوا أكثر واقعيةً لدى إنشائِهم الآلهةَ في مجتمعِهم. رغمَ كلِّ هذه الانتقادات، إلا أنَّ كارل ماركس كان منتبهاً للكارثةِ والفاجعةِ المعروضةِ تحت اسمِ الاقتصادِ الرأسماليّ. لكن، سيَكونُ من الأصحِّ أن نَقولَ أنّ هذا ما كان بإمكانِه القيامَ به من تحليلٍ وممارسةٍ ثورية، في مرحلةٍ أَنشَأَت فيها الحداثةُ الرأسماليةُ هيمنتَها، وبسَطَتها بكلِّ ما في وسعِها.
أنّ الاقتصادَ بذاتِه هو كلُّ شيءٌ يَصلُحُ موضوعاً للتغذيةِ والمأكل. ولكن في الاقتصادِ السياسيّ (بما فيه “رأسُ المال” لكارل ماركس)، فإنّ الربحَ والسمسرةَ والربا والأجورَ المُؤَمَّنةَ عن طريقِ الإنتاجِ بموجبِ الأسواقِ تُشَكِّلُ الموضوعَ الأساسيَّ للاقتصاد. ما هو قائمٌ هنا ليس علماً، إنما قواعدٌ مضبوطةٌ حسبَ حياةِ البورجوازيةِ المُتَأسِّسةِ تماماً على الربح. الحياةُ الاقتصاديةُ المُنَسَقَّةُ باتِّخاذِ الربحِ أساساً هي القضيةُ الجاثمةُ في قاعِ المجتمع. فتنظيمُ حياةُ الإنسانِ وفقَ الربحِ يعني السلطةَ الأكثرَ وحشية. ومصطلحُ البيوسلطويةِ يُعَبِّرُ عن هذه الحقيقةِ نوعاً ما. لقد نَظَرَت كافةُ المجتمعاتِ دائماً وعلى مدارِ التاريخِ بِعَينِ الارتيابِ والشكِّ إلى تُراكُماتِ الأملاكِ والأموالِ الهادفةِ إلى الثراءِ خارجَ احتياجاتِ الإنسانِ الأولية، ولَم تتوانَ عن توزيعِها على أصحابِ الحاجةِ كلما سَنَحَت لها الفرصة. لذا، ليس هباءً أنْ يتَعَرَّضَ التراكُمُ الهادِفُ إلى إثراءِ بعضِ المجموعاتِ والشخصياتِ – وليس كتَدبيرٍ تجاه الكوارث – إلى حُكمِ الأخلاقِ الرذيلةِ على الدوام. فحَجزُ قيمةٍ كحياةِ الإنسانِ التي ينبغي الحفاظَ عليها مُقَدَّسةً، وجَعلُها حِكراً على أصحابِ المُراكَمات؛ قد اعتُبِرَ لاأخلاقيةً كبرى. وهذه هي الظاهرةُ التي سعَت الحداثةُ الرأسماليةُ الغربيةُ إلى شرعَنَتِها بألفِ قانونٍ وألفِ جهازِ قوة. وما اللوياثان المذكورُ في الكتابِ المقدسِ في مضمونِه سوى إشارةٌ إلى هذه الظاهرة. . إذ يُرمَزُ إليه كوحشٍ كاسرٍ في وجهِ المجتمع. أي أنَّ حزمةَ الظواهرِ اللااقتصادية، بل والتي هي عدوٌّ لدودٌ للاقتصاد، يتم بسطُها كعِلمٍ تحت اسمِ الاقتصادِ السياسيّ. وجهودُ ماركس غيرُ القليلةِ أبداً في عَقلَنَةِ الاقتصادِ السياسيِّ الإنكليزيّ، إنما تُشِيدُ بمناهضةِ الاقتصاد، وليس بالاقتصاد. وتسميتُه ذلك بالاقتصادِ لا يُمكِنُ أنْ يَكُونَ أخلاقياً، ليس في المجتمعِ الاشتراكيِّ فحسب، بل وفي أيِّ مجتمعٍ كان. لقد سَقَطَ هو على رأسِه حينما حاوَلَ إنهاضَ هيغل على قَدَمَيه. باختصار، فمُراكَمَةُ رأسِ المالِ وعملياتُ الربحِ الدائرةُ فوق السوقِ هي أساسُ القضايا الاقتصاديةِ التي لا نظيرَ لها في التاريخ. عليَّ الإشارةَ مرةً أخرى إلى النقطةِ التالية: ما من جانبٍ مبدئيٍّ في مُناهضةِ السوقِ أو تقييمِها كأداةٍ لِفَتَشِيَّةِ البضائع، طالَما تَخدمُ وتُغَطِّي احتياجاتِ البشرِ الضروريةَ في المَأكَلِ والمَلبَسِ والمَأمَنِ والتنقل. بهذا المعنى، فالسوقُ أداةٌ اقتصاديةٌ لازمةٌ وحسنة. ما نحن ضده ليس هذا. بل تتم مناهَضَةُ التلاعُبِ بالأسعارِ عن طريقِ الأسواق من جانب، ومناهَضَةُ نظامِ الربحِ المفرِطِ – أي الرأسمالية – المتكَوِّنِ بسببِ المسافاتِ البعيدةِ من الجانبِ الآخر. ومناهَضَةُ الرأسماليةِ تعني مناهَضَةَ هذا النظام، وبالطبع مناهضةَ كلِّ شيءٍ يُحافِظُ على بقائه أيضاً. حقيقةُ السوقِ خارجَ هذا الإطار. بالعكس، فاحتكاراتُ رأسِ المالِ تُعيقُ دوماً تَكَوُّنَ تبادُلٍ عادلٍ وسليمٍ في الأسواقِ بتَلاعُبِها المتواصلِ بالأسعار، وبإبقائِها بالتالي على إمكانياتِ الربحِ منتَعِشة. أي أنّ الرأسماليةَ ليست ضد الاقتصادِ فحسب، بل وضد السوقِ أيضاً. وإلا، فهل كانت ستُقلَبُ الحياةُ الاجتماعيةُ رأساً على عقبٍ بالأزمةِ الدائمةِ وألاعيبِ التمويلِ لو لَم تَكُن كذلك؟ وهل كانت ستتضخمُ القضايا التي تُهَدِّدُ البشريةَ، وعلى رأسِها قضيةُ التضخمِ السكانيِّ المفرطِ والبطالةِ والحرمانِ وإبادةِ البيئة، بقدرِ ما هي عليه في هذه المرحلة، رغمَ كلِّ هذا الكمِّ من العلمِ والتقنية؟
نلاحظُ أنّ التبضعَ تَطَوَّرَ كظاهرةٍ هامةٍ للغاية في المجتمع المديني. أي أنه ثمة أواصرُ منيعةٌ ومتراصةٌ بين التبضعِ والمجتمع المديني (ذي المُلكيةِ الخاصة، الطبقيِّ، والدولتي)، حيث تَأتي البضاعةُ والتَبَضُّعُ في صدارةِ الفئاتِ البارزةِ في المجتمعِ والتحضر. إذن، والحالُ هذه، مِن المهمِّ للغاية تعريفُ السلعة. وبأبسطِ الأشكالِ يمكننا القولُ بأنّ اكتسابَ أيِّ شيءٍ Nesne صفةَ قيمة المقايضة (البيع والشراء، القيمة التجارية)، عدا عن كونِه شيئاً Nesne استهلاكياً لتلبيةِ احتياجاتِ الإنسان (عدا ما فيه من فائدةٍ أو تلبيتِه حاجةً ما)، فهذا يعني أنه قد تَبَضَّع. بَقِيَ المجتمعُ غريباً عن قيمةِ المقايضة مدةً طويلةً من الزمن، بل واعتَبَرَ مجردَ التفكيرِ بذلك عيباً مشيناً. حيث يُعطي ما يراه شيئاً Nesne ثميناً كهديةٍ للجماعاتِ أو الأفرادِ العزيزين عليه. أما بروزُ “التبادلِ” بدلاً عن العطايا والهدايا، فهو بُدعةٌ أو حيلةٌ من حِيَلِ المدنية بِكُلِّ معنى الكلمة. فالتبادلُ في المجتمعاتِ التي تسبق المدنية، أو الباقيةِ خارجَ دائرتِها، أمرٌ مشين، بل ويجب تَجَنُّبُهُ قدرَ المستطاع، إلا في حال الضرورة القصوى. فالمجتمعُ يدرك بتجاربِهِ الغائرةِ أنّ أيَّ إخراجٍ لأيِّ شيءٍ Nesne استهلاكيٍّ خارجَ إطارِ المؤسسة الاقتصادية – التي هي نسيجُه الأولي – أو جعلِه موضوعَ تبادل؛ قد يَجلُبُ له كافةَ ضروبِ الويلاتِ والكوارث. ولذلك، فهو حساسٌ جداً تجاه مسألةِ التبادل.
وبِتَصييرِ السلعةِ قيمةً تبادليةً، غَدَت التجارةُ والتُّجَّارُ فئةً مدينيةً جِدَّ هامة. باقتضاب، أقولُ أني لا أُفَسِّرُ السلعةَ على غرارِ ما فَعَلَ كارل ماركس. أي أنني أرى ادعاءَه بإمكانيةِ قياسِ القيمةِ التبادلية للسلعةِ عبر كدحِ العامل، بدايةً لسياقٍِ اصطلاحيٍّ أَسفَرَ عن مخاطرَ ومهالكَ هامة. وإذا ما وَضَعنا نصبَ العين انهيارَ المجتمع، الذي تَكادُ لم تَبقَ فيه قيمةٌ إلا وتَبَضَّعَت، نَكُون قد أوضحنا مَرامَ قولِنا على نحوٍ أفضل. فَقَبُولُ تَبَضُّعِ المجتمعِ على الصعيدِ الذهني يعني تماماً التخليَ عن كينونةِ الإنسانِ كإنسان. وهذا بدورِهِ ما يعني تَعَدِّي حدودَ البربرية. وإذا ما أَرَدنا التشبيه، فيُمكِنُ القولُ أنه يعني أن لوحةَ عرضِ الحيوانِ المُقَطَّعِ إرباً إرباً في المذابح للبيعِ تُنقَلُ إلى المجتمعِ الإنساني برمته. إذ تتأتى الرذالةُ الاجتماعيةُ مِن الربا، والربا من التجارة، والتجارةُ من السلعة. كما ثمةَ أواصرُ وطيدةٌ بين التجارةِ ودمارِ البيئة الأيكولوجية. فالاقتصادُ الخارجُ عن كونه نسيجاً اجتماعياً بدايةٌ للانقطاعِ الجذري عن الطبيعة. ذلك أنه يَتُمُّ إخضاعَ وحدةِ القيمِ المادية والقيمِ الحية لتمييزٍ جذري هنا. وهذا ما يعني لِحَدٍّ ما زرعَ بذورِ الميتافيزيقيا السيئة، حيث مَهَّدَ الطريق لظهورِ الثنائية التي عَكَّرَت صفوَ الذهنِ بالأرجح طيلةَ التاريخ الفكري، عبرَ تجريدِ المادةِ من الروح، وتجريدِ الروحِ من المادة. وهكذا، فإنّ التمييزاتِ والجدالاتِ الزائفةَ على غرارِ المادياتية والمعنوياتية قد قَضَت على الحياةِ الأيكولوجية والحرةِ على مَرِّ التاريخِ الحضاري بأكمله. أما الروحانيةُ غيرُ المعلومةِ الملامح، والمناديةُ بمفهومِ المادةِ الميتةِ والكونِ الميت، فكأنها تَحتَلُّ عقلَ الإنسان وتستولي عليه وتستعمِره.
أَوَدُّ التعبيرَ عن شكوكي بخصوصِ نقطةٍ أخرى. إذ أني مرتابٌ من مدى إمكانيةِ قياسِ القِيَمِ الاجتماعية (بما فيها السلع والبضائع). فاعتبارُ المادةِ المصنوعة – التي هي ليست نتاجَ كدحٍ حيٍّ فحسب، بل حصيلةُ أعدادٍ لا حصرَ لها من الكدح – بأنها محصلةُ قيمةِ كدحِ شخصٍ ما، هو بِحَدِّ ذاته سلوكٌ خاطئٌ يَفتَحُ الطريقَ أمامَ نهبِ القِيَمِ وسلبِها. والسببُ واضحٌ تماماً. إذ، كيف سيُقاسُ ثمنُ العددِ اللامتناهي من الجهودِ والكدح؟ والأنكى من ذلك، كيف سيُقاسُ كدحُ العائلة والأم المنجبةِ لهذا الكادحِ والمُنشِئةِ إياه؟ هذا الكدحُ لا يُمكِنُ تقديرُه بأيِّ قياس. كيف سيُقاسُ حَقُّ المجتمع برمته، والذي تَحَقَّقَ وصُنِعَ فيه ذاك الشيءُ Nesne المسمى بالقيمة؟ وهكذا يمكننا الإطالة أكثر. إذن، فالمصطلحاتُ من قَبِيلِ قيمةِ المقايضة، فائضِ القيمةِ، الكدحِ – القيمة، الربا، الربحِ، والسمسرةِ، متقاطعةٌ مع النهبَ والسلب (رسمياً وعن طريقِ قوة الدولة). لذا، من الأفضلِ والأَولى إيجادُ معاييرَ أخرى للتبادل، أو تطويرُ أشكالٍ جديدةٍ من نموذجِ العطايا.
الاقتصادُ بماهيته الأساسيةِ هو الممارسةُ التاريخيةُ للمجتمع. ما مِن فردٍ (سيداً كان أم أفندياً أم رب عمل أم عبداً أم قِنّاً أم عامِلاً) أو دولةٍ يُمكِنُه أنْ يَكُونَ ممثِّلاً للممارسةِ الاقتصادية. وعلى سبيلِ المثال، ما مِن فردٍ يمكنه دفعَ ثمنِ عملِ الأمومة التي تُعَدُّ المؤسسةَ الأكثر تاريخيةً ومجتمعيةً بلا نظير، سواءً كان ربَّ عمل أو أفندياً أو سيداً أو عاملاً أو قروياً أو مدينياً. ذلك أن الأمومةَ تُعَدُّ الممارسةَ الأكثر مشقةً والأَلَحَّ ضرورةً بالنسبة للمجتمع، وتُعَيِّنُ استمراريةَ الحياةِ فيه. لا أَوَدُّ الحديثَ عن إنجاب الأطفال وحسب. بل إني أَنظُرُ إلى الأمومة من زاويةٍ فسيحة، باعتبارها ثقافةً، وظاهرةً في حالةِ انتفاضٍ دائمٍ بنبضاتِ فؤادها، وصاحبةَ الممارسةِ المفعمةِ بالذكاء. وهذا هو الصحيح. حسناً، ما دامَ كذلك، تلك المرأةُ الضروريةُ لهذه الدرجة، والتي تعاني المشقات، وتُمارِسُ العملَ المتواصل، والمشحونةُ بهذا الكمِّ من الفؤادِ والعقل، والمنتفضةُ على الدوام؛ بأيِّ عقلٍ أو ضميرٍ تتناسبُ معاملتُها ككادحٍ بلا أَجر؟ كيف للماركسيةِ المعروفة بأنها أيديولوجيةُ الكادحين بلا منافس أنْ تَعرضَ علمَ الاقتصاد وحَلَّه على أنه اجتماعي، مع أنها أَبقَت على أصحابِ الممارسةِ الاجتماعية كالمرأة وأمثالها خارجَ الأَجر، و لم يَخطُروا ببالها قطعياً، وأَجلَسَت غُلامَ وخادِمَ ربِّ العمل في الزاويةِ الرُّكن؟ الاقتصادُ الماركسي اقتصادٌ بورجوازيٌّ بنحوٍ خطير. وهو بحاجةٍ لتقديمِ نقدٍ ذاتيٍّ جدّيّ. فالبحثُ عن الاشتراكية في ساحةِ مصالحِ البورجوازية، دونَ تقديمِ النقد الذاتي بجرأة؛ لا يعني سوى تقديم أثمنِ الخدماتِ للنظام الرأسماليِّ بلا مَقابل، تماماً مثلما لوحِظَ في إفلاسِ حركةِ القرن ونصفِ القرن (الاشتراكية المشيدة) وانهيارِها (بل وتلقائياً). كَم كان لينين صادقاً عندما قال “الطريقُ إلى جهنم مرصوفةٌ بِلَبَناتِ النوايا الحسنة”! تُرى، هل كان نفسُه يتصور أنّ هذه الجملةَ سوف تُؤكِّدُ صحتَها في ممارسته هو أيضاً؟
إنّ النقطةَ الجِدَّ هامةٍ هي تقييمُ خصخصةِ وتدويلِ الاقتصادِ كأداةِ نهبٍ وسلبٍ بشكلٍ مبكرٍ. وقد أفادَ كارل ماركس بهذا الموضوعِ بتعبيرٍ أكثرَ “علميةً”، حين قال بوجودِ سرقةِ القيمةِ الزائدة الكامنة في قيمةِ الكدح (وذلك على شكلِ ربح). يستلزمُ الأمرُ تفسيراً أكثرَ عمقاً. فحسبَ رأيي، وعدا أنْ يَكُونَ فائضُ القيمةِ وفائضُ الإنتاجِ السابقُ لها أداةَ نهبٍ ولصوصية، فما دامَ الاقتصادُ موضوعاً للمُلكيةِ الخاصةِ ومُلكيةِ الدولة، فيُمكِنُ تقييمه كأداةٍ أوليةٍ في النهبِ واللصوصية. وباعتبارِ أنّ الاقتصادَ يُشَكِّلُ النسيجَ الأساسيَّ للمجتمع، فجميعُ أشكالِ التَّمَلُّكِ فيه، بما فيها الخاصةُ والدولتية، أمرٌ غيرُ أخلاقي، ويَندَرِجُ في لائحةِ النهب والسلب. فكيفما أنّ خَصخَصةَ أو تدويلَ قلبِ الإنسانِ أو أيِّ عضوٍ آخر فيه أمرٌ بلا معنى أو ممنوعٌ وخطير، فالأمرُ عينُه يَسري على الاقتصادِ أيضاً.
الاقتصاد هو الواقعُ الاجتماعي الأقلُّ تَدَوُّلاً وخَصخَصةً، ويُشَكِّلُ النسيج الأساسَ لجماعيةِ المجتمع، حيث من المحال مجردَ التفكيرِ بِخَصخَصتِهِ أو تدويلِهِ، والذي يعني تماماً تدميرَ النسيجِ الاجتماعي الأساسي، وحرمانَ المجتمع من أهمِّ ضوابطهِ الحيوية والهامةِ في الحياة. ولهذا السببِ لم يجرؤْ أو يُفكر أيُّ مجتمعٍ بِجعلِ الخصخصةِ والتدويلِ في الميدان الاقتصادي خاصيةً أوليةً، بالقدرِ الذي قامَت به الرأسمالية. لا ريبَ في أنّ المجتمعَ المديني، وكيفما دَوَّلَ جميعَ الميادين الاجتماعية، فقد حَوَّلَ الاقتصادَ أيضاً، والذي هو نسيجُه الرئيسي، إلى موضوعٍ للمُلكيةِ الخاصة ولِمُلكيةِ الدولة في آنٍ معاً. ولكن، ما مِن مجتمعٍ أَعلنَ علناً ورسمياً عن مُلكيته الخاصةِ ومُلكيةِ الدولة كنظامٍ قائمٍ بالدرجةِ التي فعلَتها الرأسمالية.
فيما يخص الميدان الاقتصادي، يجب تأمين الانتقال من الاقتصاد المعتمد على التبضع والربح إلى الاقتصاد المرتكز إلى قيمة الاستهلاك والمشاطرة. فالاقتصاد المنتعش بالربح، لم يسفر عن تخريب المجتمع وحسب، بل وعن تدمير الطبيعة أيضاً. حيث يتوجه صوب بيئة لا يطاق العيش فيها. وإذا لم يوضع حد نهائي لسياسة الاقتصاد البورجوازي، فسيكون المنتهى إلى جهنم السعير. إن هرع البورجوازية وراء الربح الأعظمي – ونخص هنا بروز زمر التمويل التي تحقق الربح تلاعباً بالمال – يُسلط العولمة على رقاب البشرية من أسوأ جوانبها. ما من طبقة اجتماعية حققت هذا الكم من الربح وكسب القيم في أي حقبة من حقب التاريخ. يرجع السبب الأولي في تردّي المجتمع إلى المستوى التمويلي الذي بلغه الاقتصاد. أما الصناعة والتجارة الزاحفتان مع التمويل، وبسبب التبضع الدائم، وتقديم الأشكال غير اللازمة بغرض الربح الأعظم إلى الأسواق؛ فقد أدتا – إلى جانب السلع الفائضة التي لا يستهلكها المجتمع ولا يقدر على شرائها – إلى تكوين إنسان “آخر” يعيش تحت حدود الفقر والمجاعة بدرجة مريعة حقاً. لا تطيق الانسانية العيش أكثر من ذلك مع هذه السياسة الاقتصادية. هنا بالذات يبرز الدور الأصلي للاشتراكية، التي يمكن تعريفها بالانتقال المعتمد على المشاطرة. هذه هي سياسة الاشتراكية الاقتصادية. على البرنامج أن يُسند مبدأه الاقتصادي إلى هذه السياسة الاقتصادية، التي إذا ما طُبقت، فستخرج ظواهر البطالة، الفقر المدقع ضمن الرفاه، المجاعة بجانب الإنتاج الفائض، تدمير البيئة مع الربح؛ من كونها قدراً محتوماً.
في هذه النقطةِ بالذات تصبحُ مصطلحاتُ تقسيمِ المجتمعِ إلى بنيةٍ تحتيةٍ اقتصاديةٍ وبنيةٍ فوقيةٍ أخلاقيةٍ هذياناً. بالمستطاعِ تعريفَ الأخلاقِ على أنها السبيلُ الأفضلُ للحظيِ بالاقتصاد، أو بالأحرى لِتَلبيةِ احتياجاتِ الحياةِ الأولية. أي أنّ الأخلاقَ بوصفِها عُرفاً وأُصُولاً هي نمطُ الحظيِ بالاقتصادِ أو الحاجاتِ الضرورية. بناءً عليه، فالتمييزُ بين البنيةِ الفوقيةِ – البنيةِ التحتية اصطلاحاتٌ بعيدةٌ عن الإيضاح. تُعَبِّرُ الأخلاقُ عن تحقيقِ جميعِ الممارساتِ الاجتماعيةِ بأفضلِ الأنماط، وعلى رأسها الجهودُ الاقتصادية. بالتالي، فكلُّ شيءٍ اجتماعيٍّ هو أخلاقيّ. كما أنّ كلَّ شيءٍ أخلاقيٍّ هو اجتماعيّ. مثلاً، وكيفما أنّ الاقتصادَ أخلاقيٌّ، فالدينُ أيضاً أخلاقيّ. والسياسةُ باعتبارِها الديمقراطيةَ المباشَرةَ هي الأخلاقُ بِذاتها.
يُمكن التفكير في موضوعِ الاقتصاد على أنه ممارسةٌ أوليةٌ للمجتمع الأخلاقيِّ والسياسي التاريخي، بل وتصييره علماً تجريدياً إنْ تَطَلَّبَ الأمر. أما التفكير بِكَونِ الاقتصاد السياسي الأوروبيِّ المحورِ علماً، فربما يعني وقوعَ العقلِ أسيراً لميثولوجيا ثانيةٍ هي الأكثر استعماراً بعد الميثولوجيا السومرية. لذا، فالثورةُ العلميةُ الراديكالية سوف تؤدي دوراً مصيرياً بالنسبة لهذا الميدان. علينا التبيان، وبكلِّ إصرار، أنه ما مِن ممارسةٍ اجتماعيةٍ هي أخلاقيةٌ وسياسيةٌ بقدرِ الاقتصاد. وهو بتوصيفِه هذا لن يتخلصَ مِن إيجادِ معناه كموضوعٍ هو الأكثر أولويةً في السياسةِ الديمقراطية. عليه، فنظامُ الحضارةِ الديمقراطية المبنيُّ على اقتصادِ المجتمعِ التاريخيِّ الأكثر لُزوماً مِن الطبِّ ألفَ مرة لأجلِ سلامةِ وعافيةِ المجتمع،


Warning: Undefined variable $meta_text in /home/abdullahocalan/public_html/ar/wp-content/themes/xwe/content-single.php on line 53