الأمة الديمقراطية والحياة الاجتماعية

الأمةَ الديمقراطيةَ تُصِرُّ على البقاءِ مجتمعاً أولاً، وتنتصبُ في وجهِ الحداثةِ الرأسماليةِ بشعارِ “المجتمع أو لا شيء”.
عبد الله أوجلان
تتحققُ تغيراتٌ هامةٌ في الحياةِ الاجتماعيةِ خلال سياقِ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيّ. حيث تطرأُ تغيراتٌ كبيرةٌ على الحياةِ التقليديةِ في ظلِّ الحداثةِ الرأسمالية، ويشهدُ المجتمعُ القديمُ تحولاتٍ جذرية. وتفرضُ الحداثةُ حضورَها بالأكثرِ ضمن التغيراتِ الجاريةِ في الحياةِ الاجتماعية، والتي غالباً ما تَكُونُ شكليةً ومعنيةً بالموضةِ والأزياء. هذا وتستمرُّ المعاييرُ الأساسيةُ للمدنيةِ بوجودِها. أي إنّ تطورَ المدينةِ والطبقةِ والدولةِ وتحولَها ليس معنياً بالمضمون. بل يظهرُ تورمٌ ضخمٌ في تلك المستويّاتِ الثلاث. حيث إنّ بنيةَ المجتمعِ المدينيةَ والطبقيةَ والدولتيةَ تتعرضُ لتضخمٍ سرطانيٍّ مع نظامِ التراكمِ الرأسماليّ. إلى جانبِ اتصافِ نظامِ المدنيةِ القديمِ من جهةِ الجوهرِ ببنيةٍ تفضي بها تناقضاتُها إلى أزماتٍ متعاقبة، إلا إنّ تلك التناقضاتِ ليست من النوعِ الذي يُعَرِّضُ تقدمَ المجتمعِ للمخاطرِ كلياً، أو يُقَوِّضُه ويُفَكِّكُه، أو يتسببُ بتورمٍ من النوعِ السرطانيِّ في أنسجتِه. لكنّ طرازَ التكديسِ في الرأسمالية، وبِحُكمِ طبيعتِه، يُحَوِّلُ التعاظمَ الاجتماعيَّ إلى نمطٍ سرطانيٍّ كي يتمكنَ من تفعيلِ ذاتِه. فإذا كنا شاهدين على سلطةِ الدولةِ القوميةِ المتسربةِ حتى أدقِّ الأوعيةِ الشعريةِ للمجتمع، وعلى التمايزِ الطبقيِّ اللاهثِ وراء المجتمعِ المتجانسِ الرتيبِ داخل المدنِ العملاقةِ التي يناهزُ تعدادُ سكانِها العشرين مليون نسمة في راهنِنا؛ بل وإذا كنا نَعتَبِرُ ذلك أمراً طبيعياً بصفتِه نزعةً سائدةً في الحياةِ الاجتماعية؛ فهذا ما يُسَمّى بالإصابةِ بمَرَضِ السرطانِ الاجتماعيّ. وكلُّ الدلالاتِ العلميةِ تشيرُ إلى استحالةِ تحمُّلِ كوكبِنا والبيئةِ والمجتمعِ ذاك التضخمَ الجاري بهذه الوتيرة. وفي هذه الحال، ينبغي علينا الحديثُ عن وحشٍ يفترسُ كلَّ ما تقعُ عليه عينُه، لا عن مجتمعٍ يعيش. فبينما كان اللوياثانُ في المجتمعِ القديمِ نعتاً يُطلَقُ على سلطةِ الدولة، فقد تحوَّلَت الحداثةُ الرأسماليةُ بذاتِ نفسِها في حاضرِنا إلى وحشٍ يستنفذُ كلَّ أشكالِ الحياةِ الحية. أي أنّ الحداثةَ الرأسماليةَ بذاتِ عينِها وحشٌ كاسر، ولوياثانٌ عصريّ.
لقد تحوَّلَت الحياةُ العصريةُ السائدةُ إلى فخٍّ يحيطُ كلياً بالمرأةِ التي هي أقدمُ عبد. حيث زُجَّت المرأةُ في عهدِ الرأسماليةِ في وضعٍ سيَكُونُ من الصائبِ تماماً وصفُها بـ”مَلِكة السلع”. فهي ليست يداً عاملةً مجانيةً يُبقى عليها في وضعِ “ربةِ المنزل” وحسب، بل وخارجَ المنزلِ أيضاً هي أرخصُ يدٍ عاملة، وأداةٌ رئيسيةٌ لتخفيضِ الأجور. إنها العنصرُ الأولُ في لائحةِ التشغيلِ المرن، وآلةٌ صناعيةٌ مُنجبةٌ تضخُّ الأجيالَ الجديدةَ للنظامِ القائم. وهي تاجُ رأسِ صناعةِ الدعاية، ووسيلةُ تطبيقِ السلطةِ الجنسانية. كما إنها أداةُ اللذةِ والسلطةِ اللامحدودتَين لجميعِ الرجالِ التسلطيين، بدءاً من الإمبراطوريِّ العالميِّ إلى الإمبراطورِ الصغيرِ داخل الأسرة. وهي المادةُ الشيءُ التي تمنحُ السلطةَ لِمَن لا سلطةَ له البتة. هذا ولَم تُستَثمَرْ أو تُستَغَلّْ المرأةُ في أيِّ مرحلةٍ من التاريخ، بقدرِ ما هي عليه في عهدِ الحداثةِ الرأسمالية. ونظراً لكونِ العبودياتِ الأخرى – عبودية الطفل والرجل – تصاعدت باقتفاءِ أثرِ عبوديةِ المرأة، فما فرضَته الرأسماليةُ على الحياةِ الاجتماعيةِ فيما عدا طبقةِ الأسياد، هو استعبادُ الجميعِ وتصييرُهم أطفالاً. بمعنى آخر، فالحياةُ الاجتماعيةُ في مجتمعِنا الحاليِّ قد حُوِّلَت إلى طفلٍ أَشبَهُ بالعجوزِ الصائرِ طفلاً من جهة، وجرى تأنيثُها من الجهةِ الأخرى. وتتجلى هذه الحقيقةُ في عبارةِ هتلر التي قالَ فيها “الشعوبُ والمجتمعاتُ كالنساء، تحبُّ الطاعةَ والائتمار”. أما العائلةُ المتكونةُ حول المرأة، والتي تُعَدُّ من أقدمِ وأعرقِ مؤسساتِ المجتمع؛ فتعاني الانحلالَ بالتمحورِ حول المرأةِ أيضاً، ولكنْ بصورةٍ تامةٍ هذه المرة. وما يفتِّتُ العائلةَ هو نمطُ التراكمِ في الرأسمالية. وكيفما أنّ هذا النمطَ يتحققُ تناسباً مع مدى استهلاكِه المجتمع، فإنّ النتيجةَ المتوقَّعةَ من جانبٍ آخر، هي أنه لن يستطيعَ استنفاذَ المجتمعِ وتذريرَه (تحويله إلى ذَرّات)، إلا تناسباً مع مدى تفكيكِه للأسرة، التي هي خليةٌ أوليةٌ في المجتمع.
مهما تمَّ الارتقاءُ بمستوى التقدمِ الطبيّ، فسيظلُّ عاجزاً عن وقفِ تعاظمِ الأمراضِ المستشريةِ بين صفوفِ المجتمعِ كالتيهور. والتقدُّمُ الطبّيُّ بذاتِ عينِه برهانٌ قاطعٌ جدلياً على مدى تطورِ الأمراضِ أيضاً. ثاني نتيجةٍ هامةٍ يُتَوَقَّعُ حدوثُها، هي تَسَبُّبُ النظامِ الرأسماليِّ بإغراقِ أفرادِ المجتمعِ أيضاً بالأمراضِ العصبيةِ والسرطانية، نظراً لاتسامِ بنيتِه هو بمثلِ هذه الأمراض. فالقومويةُ والدينويةُ والسلطويةُ والجنسويةُ جيناتٌ عقليةٌ وعاطفيةٌ في الرأسمالية، تُنتجُ الأمراضَ على الدوام، سواء مؤسساتياً أم فردياً. وما الأمراضُ البنيويةُ المتزايدةُ سوى مؤشرٌ على وجودِ الأمراضِ الذهنيةِ والنفسية، وهي خلاصةٌ طبيعيةٌ يؤولُ إليها المجتمعُ الذي قامت الرأسماليةُ بتفكيكِه وبعثرتِه.
إنّ النظامَ التعليميَّ في الحياةِ الاجتماعيةِ العصريةِ مُكَلَّفٌ بتنشئةِ نمطٍ فرديٍّ مضادٍّ للروحِ المجتمعية. هذا وتُطَبَّقُ الحياةُ الليبراليةُ الفرديةُ وحياةُ مواطنِ الدولتيّةِ القوميةِ بعدَ مَنهَجَتِهما وضبطِهما بموجبِ تلبيةِ احتياجاتِ الرأسمالية، فشُكِّلَت صناعةٌ باهرةٌ لهذا الغرض، أُطلِقَ عليها اسمُ “قطاع التعليم والتربية”. ويتعرضُ الفردُ للقصفِ ذهناً وروحاً على مدارِ الساعةِ ضمن هذا القطاع، كي يتحولَ إلى موجودٍ مناهضٍ للاجتماعية. هذا وقد جُرِّدَ هذا الفردُ من كينونتِه الأخلاقيةِ والسياسية. كما وتُفسَدُ طبيعةُ المجتمعِ وتُخَرَّبُ من الجذور، عن طريقِ الأفرادِ الصائرين هارعين وراء الاستهلاك، مُولَعين بالمالِ والجنس، شوفينيين، ومتملقين بالسلطة. بمعنى آخر، فالتعليمُ والتدريبُ يوَظَّفُ في تدميرِ المجتمع، لا في سبيلِ تفعيلِه بصورةٍ قويمةٍ وسليمة. من هنا، فالحقيقةُ التي أَثبَتَتها التحليلاتُ التي بالوسعِ الاستفاضةُ بها بشأنِ الحياةِ الاجتماعية، هي وصولُها حدَّ “المجتمع أو العدم”.
حياةُ الإنسانِ ذاتُ طابعٍ اجتماعيٍّ قبلَ كلِّ شيء، أياً كان الدجلُ المُحاكُ باسمِ العلمويةِ على ضوءِ خدمةِ مصالحِ الرأسمالية. ذلك أنّ المجتمعَ كان موجوداً حتى قبل ظهورِ الدولةِ والرأسمالية. وبالمجتمعِ غدا الإنسانُ إنساناً. ولولا مجتمعُ الكلانِ البسيطُ الذي لا نُعجَبُ به، والذي دامَ ملايين السنين، والذي هو أَقربُ إلى أنْ يَكُونَ عائلةً بسيطة؛ لَما كانت ستَكُونُ المدينةُ أو الطبقةُ أو الدولةُ أو المدنية. بمعنى آخر، فما طَوَّرَ المجتمعَ ليس المدينةَ أو الطبقةَ أو الدولةَ أو المدنية. بل بالعكس، إنّ الكيانَ الذي طوَّرَ هذه الظواهرَ بالذات هو المجتمع. وعليه، ما من شيءٍ يستطيعُ بلوغَ مكانةِ المجتمعِ في حياةِ الإنسان. والتراجعُ عن المجتمعِ يعني التجردَ من كينونةِ المجتمعِ والتخلي عن الإنسانيةِ وكينونةِ الإنسان. لذا، فإنّ الأمةَ الديمقراطيةَ تُصِرُّ على البقاءِ مجتمعاً أولاً، وتنتصبُ في وجهِ الحداثةِ الرأسماليةِ بشعارِ “المجتمع أو لا شيء”. أي إنها تُصِرُّ على ثَباتِ وسيرورةِ المجتمعِ المُفَكَّكِ بين عجلاتِ الحداثة، وعلى إحيائِه كواقعٍ تاريخيٍّ – اجتماعيّ. وإلى جانبِ تخصيصي بنداً منفصلاً بشأنِ المرأةِ والأسرةِ ضمن مرافعتي، نظراً لأهميتِهما، فعليَّ الإشارةُ أيضاً إلى ضرورةِ تناوُلِ المجتمعِ على أنه أساساً عائلةٌ كبيرة. فهذه الأسرة هي التي أنشأَت الإنسانَ وحققَته على مدى التاريخ. أما أديانُ الحداثةِ التي اختُزِلَ كلُّ شيءٍ في يومِنا الحاليِّ إليها، من قبيلِ المالِ والسلطةِ والجنسِ وكرةِ القدمِ وما شابه؛ فقد ظهرَت إلى الوسطِ بعد ذلك بزمنٍ طويل. وعليه، ليس بمقدورِها تكوينُ الفردِ إطلاقاً، بل إنها تستهلكُه وتُنهيه.
الأمةُ الديمقراطيةُ عصرانيةٌ بديلةٌ يتحققُ فيها الفردُ المواطنُ الحر. وهي المجتمعُ البديلُ إزاء التهميشِ الاجتماعيّ، والمجتمعُ الديمقراطيُّ مقابلَ مجتمعِ أو لامجتمعِ السلطةِ والدولة. وهي المجتمعُ الذي يتوصلُ إلى النشوءِ والتواجدِ الحرِّ والمتساوي ضد الاستهلاكِ الاجتماعيِّ الذي تُمارَسُ فيه وتُرَسَّخُ شتى أشكالِ العبوديةِ واللامساواة. بإمكانِنا بلوغُ هذه التعاريفِ بكلِّ يُسر، لدى تقييمِنا الأمةَ الديمقراطيةَ على صعيدِ الحياةِ الاجتماعية. فكينونةُ مجتمعِ الأمةِ الديمقراطية، هي أولُ شروطِ العيشِ كمجتمعٍ سليمٍ قويم. وهي تُعِيدُ المجتمعَ الذي استهلكَته الدولةُ القوميةُ إلى أصلِه. والمجتمعُ السليمُ يُنشِئُ فرداً سليماً. والفردُ الذي ينعَمُ بالصحةِ الذهنيةِ والروحية، تزدادُ مناعتُه ومقاومتُه إزاء الأمراضِ الجسديةِ التي تغدو قليلة. ونظراً لتطلعِ مفهومِ التعليمِ والتدريبِ في الأمةِ الديمقراطيةِ إلى المجتمعيةِ والفردِ المواطنِ الحرّ، فإنه يُعادُ بناءُ تطورِ الفردِ بالمجتمعِ والمجتمعِ بالفردِ دياليكتيكياً، وإبرازُ دورِ العلومِ الذي يفضي إلى النعيمِ بالمجتمعيةِ والحريةِ والمساواةِ مجدَّداً. وهكذا، فالأمةُ الديمقراطيةُ هي الروحُ القوميةُ في المجتمعِ الذي اكتسبَ الوعيَ السليمَ والصحيحَ بحقِّ نشوئِه.
يُعَدُّ KCK ضمانَ حياةِ الفردِ الحرِّ والمجتمعِ الديمقراطيّ، انطلاقاً من دورِه الذي يؤديه باعتبارِه العمودَ الفقريَّ في تصييرِ المجتمعِ الكرديِّ أمةً ديمقراطية، بعدَما أَوصَلَته الحداثةُ الرأسماليةِ إلى عتبةِ الإبادةِ والإفناء. إنه الوسيلةُ الأوليةُ لتحلي الفردِ والمجتمعِ الكرديَّين بوعيِهما لوجودِهما الذاتيّ. هذا ويُؤَمِّنُ إدراكَ المجتمعِ لحقيقتِه وواقعِه، بتطويرِه لبُعدَيه الأخلاقيِّ والسياسيّ. ذلك أنّ الأمةَ الديمقراطيةَ في عصرِنا تدلُّ على المجتمعِ الذي أدركَ وجودَه ونشوءَه، وتسلَّحَ بوعيِه ذاك في اللوذِ عن ذاتِه. والمجتمعُ الكرديُّ المُطَوَّقُ بنيرِ الإبادةِ الثقافيةِ على يدِ الدولتيةِ القومية، لن يتمكنَ من تخطي نظامَ الإنكارِ والإبادةِ المفروضِ عليه هذا، إلا بالتحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية. بمعنى آخر، فالأمةُ الديمقراطيةُ وKCK والفردُ الحرُّ كلٌّ لا يتجزأ.


Warning: Undefined variable $meta_text in /home/abdullahocalan/public_html/ar/wp-content/themes/xwe/content-single.php on line 53